في الثالث من ديسمبر 1872 م أعلن " سيدني سمث " نجاحه في جمع القطع المتناثرة من ملحمة جلجامش بعضها إلى بعض، مكتوبة في أثنى عشر لوحاً، ومحتوية على قصة الطوفان في لوحها الحادي عشر ، وحسب هذه الملحمة فإن جلجامش انطلق في رحلته للبحث عن الخلود، وقابل اوتنباشتيم (أتراحسيس في النسخة البابلية) الذي منحته الالهة الخلود، فروى أوتنباشتيم قصة الطوفان لجلجامش وجاء في القصة أن الآلهة غضبت من البشر وآثامهم، (وفي رواية أخرى أن الآلهة غضبت من ضجيجهم) فقررت إفناءهم، وأثناء نوم أوتنبشتيم، أوحت له الآلهة بأن يبني سفينة ويضع فيها من كل صنف من المخلوقات زوجين اثنين لكي تستبدل الآلهة الخلق بخلق جديد. فامتثل اوتنبشتيم للأمر، ثم أرسلت الآلهة جميع أنواع العواصف وأفنت جميع المخلوقات وفي اليوم السابع نظر أوتنبشتيمحوله فرأى الشمس وقد نجا هو ومن معه من العواصف، ثم أرسل حمامة للبحث عن اليابسة وعادت الحمامة ثم أرسل سنونو فطار ثم عاد، ثم أرسل غرابا فطار ولم يعد.

معروف أن أبا الأنبياء إبراهيم كان في مدينة أور العراقية، ثم غادر هاربا من بطش النمرود وغزا فلسطين، ومن نسله جاء بنو إسرائيل ويقول المؤرخون أن التوراة كتبت بعد ملحمة جلجامش (هناك من يقول أنها كتبت في القرن العاشر ومن يقول القرن الخامس قبل الميلاد) ولكن التشابه بين التوراة وملحمة جلجامش التي كتبت في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، يشير إلى أن مصدر قصة الطوفان هو ملحمة جلجامش التي سبقت التوراة بعشرة قرون على الأقل.

إن تطابق التفاصيل بين قصة التوراة وجلجامش ليس غريبا، إذ أن الحضارات المختلفة بما فيها اليونانية والرومانية والفرعونية والهندية تجتمع في نزعتها إلى تصور نماذج كبرى لما وراء الطبيعة، وهو ما أطلق عليه العالم السويسري كارل يونغ archetypes وهذه الصور تشكل مواضيع متكررة في أساطير الشعوب كالخلود والموت والسعادة وصراع الخير والشر والحب والحرب لذا تكثر الصور أو الشخصيات التي تمثل النماذج الكبرى، فهناك الآلهة والأنبياء والعقاب والجنة والنار والرجل الحكيم والمرأة الساحرة والأفعى والبطل القاهر والمرأة البارعة الجمال واللغز الذي لا يفكه سوى الأبطال وإكسير الحياة والخلود والقرابين وما إلى ذلك مما تحمله حكايا الشعوب.

من الطبيعي إذن أن نجد قصة الطوفان منقولة حرفيا عن ملحمة جلجامش السومرية، وقد وردت الملحمة نفسها في الحضارة البابلية ولكن اسم اوتنبشتيم اختلف وصار أتراحسيس، و في النصف الأول من القرن الثالث قبل كتب أحد الكهنة ويدعى بيروسوس تاريخ بلاده باللغة اليونانية في ثلاثة أجزاء وحوى الكتاب على قصة الطوفان وتقول أنه وتقول أنه كان يعيش ملك اسمه " أكسيسو ثووس " هذاالملك رأى في المنام أن الإله يحذره من طوفان يغمر الأرضويهلك الحرث والنسل وأمره أن يبني سفينة يأوي إليها عندالطوفان. فبنى سفينة كبيرة جمع فيه كل أقربائه وأصحابه،فضلاً عن الكائنات الحية من الطيور وذات الأربع. وغرقتالأرض.. ونجت السفينة على جبل حيث نزل وزوجته وابنتهوقائد الدفة، وسجد الملك لربه وقدم القرابين الخ

هذه ليست القصة الوحيدة التي تشبه ميثولوجيا الشعوب، إذ تحتوي ملحمتا الإليادة والأوديسا على الكثير من النماذج المتشابهة في أساطير الشعوب. وأبرزها البطل الذي جاء ثمرة زواج بين إله وامرأة من البشر، وجلجامش نفسه أمه من البشر وأبوه إله، كما جاء في الميثولوجيا الإغريقية أن زيوس كبير الآلهة تزوج أميرة اسمها ليديا فأنجبت هيلينا أجمل نساء الأرض التي قامت بسببها حرب طروادة، وغير ذلك من أنصاف الآلهة. كما جاء في الميثولوجيا الإغريقية أن بروميثيوس (آدم في الأديان) هو أصل البشر وقد تحمل العناء في سبيل البشر وسرق من السماء النار لكي يدفئ البشرية، فغضب زيوس وأرسل باندورا إلى الأرض ومعها صندوق الشرور والآثام، ولم يكن البشر يعرفون الإثم قبل ذلك.

إن فكرة كارل يونغ عن النماذج الكبرى تمثل اللاوعي البشري collective unconsciousness أي الأفكار الدفينة في وعي البشر جميعا، والتي تطرح أسئلة عن الوجود وحقيقة الحياة، فيضع كل شعب وكل حضارة تصورا خاصا بهم للإجابة عن الألغاز المحيرة في الحياة مستخدمين فيها خيالهم لما يجري وراء الطبيعة.