الأمر الجلي الذي يجب أن يعلم ويأخذ به كل مَن يريد أن يدخل سوق السياسة، ليكون طبّاخاً ماهراً في مطابخ القرار وصناعته وتنفيذه، ويجعل اللعاب يسيل من بين فكّي وشفتي الجوعى، أن السياسة لیست بقوة التصريحات التي يدليها بعض قليلي الحيلة هي للاستهلاك الإعلامي، ولا تعتبر عملاً سياسياً، فالسياسة هي إدارة الصراع بالفنون المتاحة والممكنة، والقيادة الكوردية تتصرّف ومنذ 2003 على أنها رجالات دولة وصمّامات أمان للشعب وليست مجرّد عتّالة في أسواق النخاسة أو وجهاء جهلاء في إدارة شؤون البلاد والعباد، أو عصابات تسرق مقدرات الناس، فأثبتت أنها هدرت الدماء لا لأن تشتّت العراق وتنشر الفوضى، ولا لأن تبني دولة داخل دولة، بل لأجل دولة كوردستان المستقلة، الحاضنة للأمن والاستقرار.

قضى أول رئيس كوردي للعراق الراحل جلال طالباني سنوات طوال مقاتلاً بيشمركة في جبال كوردستان، كما قضى سنوات في مناف مختلفة، وحكم عليه بالإعدام غيابياً، كما أصدر الرئيس الراحل صدام حسين عفواً عن كل المشاركين في انتفاضة 1991، ولكنه استثنى أسطورة السياسة الكوردية من هذا العفو، واصفاً إياه بحسب القرار "المجرم والعميل والخائن"، لأنه كان يشكل صراعاً مزمناً وطويلاً ومرعباً لرئيس كان ديكتاتوراً على الكورد والعراقيين. 

لقد دارت الأعوام والأيام، ليصبح ذاك المجرم والعميل والخائن رئيساً للجمهورية العراقية دون اعتراض أو جدل من أي عربي عراقي، ويتم اعتقال صدام حسين ومحاكمته، ويصدر حكم الإعدام عليه، لكن طالباني رفض الانتقام من عدو الأمس ومعاملته بالمثل، وامتنع عن توقيع الحكم بالموت الصادر بحقه «لأنه وقّع على وثيقة منظمة الاشتراكية الدولية الداعية لإلغاء عقوبة الإعدام، باعتبارها عقوبة انتقامية غير إنسانية»، ويترك هذه المهمة القذرة – بحسب رؤيته – إلى رئيس وزرائه نوري المالكي، ولا زال هذا الحدث علامة فارقة في حياة هذا السياسي الذي قاتل وحارب من أجل كوردستان، ووصف بأنه رئيس التوافقات وكل المراحل، لما يتميز من خبرة وتجربة في العمل السياسي.

الرئيس مسعود بارزاني رغم أخطاءه في بعض المسائل والقضايا الداخلية والخارجية «كل العظماء يخطؤون» هو من أقوى الشخصيات السياسية في الشرق الأوسط حكمة وحنكة، ونجح مع إدارته بذكائه ودهائه وطريقته في إعطاء قادة بغداد دروساً في أبجديات السياسة، بإيصال الكورد إلى هذا اليوم، من الانتصار على الإرهاب السياسي والإسلامي، وبمساعدة دولية ومحلية، ورفض تجديد عقد الشراكة مع دولة باتت "الطائفية" سمتها الأساسية، بفوضاها الإسلامية، وإدارتها من أجندات خارجية تشبه حيتان المحيطات «قال فائق الشيخ علي عضو اللجنة القانونية في مجلس النواب العراقي: "فكّوا الشراكة معهم بهدوء.. إنهم يريدون الإستقلال!"»، وإنجاح عملية الاستفتاء، وتأمين حقوق الشعوب الأخرى ضمن كوردستان «مفهوم جديد وثوري بالنسبة للشرق الأوسط» وأخيراً رفع البطاقة الحمراء في وجود بعض ساسة العراق، ممَن شاركوا في مراسم تشييع جثمان الشخصية الذكية والمحبوبة والبراغماتية والمسامحة، والبيشمركة وزعيم حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني وأول رئيس كوردي للعراق ”Mam Jalal بمعنى العَم جلال“ جلال طالباني.

أما الكاتب والسياسي العراقي سمير عبيد، فيعترض عبر موقع الفيس بوك الاجتماعي، وفي يوم مراسم تشييع جثمان الراحل جلال طالباني، على بعض الأمور الوطنية والأخلاقية، واُخرى بروتوكولية، ليس لها علاقة بالأزمة الكوردية الأخيرة، وهي أن الرئيس الراحل جلال طالباني بقي يحمل صفة رئيس جمهورية العراق حتى رحيله، وكان العراق يصرف على علاجه، وتدفع له راتبه ومخصصاته، كونه رئيساً للعراق، وأنه لم يسمع وأن أوصى الراحل في أن يلفّ بالعلم الكوردي وتكون له مراسم خاصة باللغة الكوردية «المراسم كانت بثلاث لغات، كوردية وعربية وإنكليزية»، وأن الموسيقى والبروتوكول خاص بدولة كوردستان.

يقول سمير عبيد، في يوم دفن الراحل جلال طالباني، أن الرئيس مسعود بارزاني عرف كيف ينتقم «الكورد في القرن الواحد والعشرين ينتقمون بالقلم وليس بالرصاص والبارود» ويوزّع رسائله بدقة متناهية، وتنم عن حسّ قبلي لا يتحمل التجاوز، وبحسّ سياسي بأنه لن يتراجع، ويعرف كيف يدافع، متسائلاً: ”ما هي الرسائل التي وزّعها البارزاني؟“، وأهم الإجابات التي أجاب عنها كانت كالتالي: 

– فاجأ جميع الحاضرين والعالم أجمع بلفّ جثمان الراحل بعلم دولة كوردستان وليس بالعلم العراقي «قناتا المسار والاتجاه العراقيتان تعتذران عن نقل وقائع مراسم الرئيس الراحل جلال طالباني، بسبب عدم لفّ جثمانه بالعلم العراقي!»، ليوحي للعالم أجمع بأن كوردستان دولة، وأراد إرسال رسالة واضحة بعد الاستفتاء، وهي ”هنا دولة كوردستان“، وعرف كيف يوجّه صفعة وإهانة لساسة وقادة بغداد جميعاً، لا بل لبغداد نفسها. 

– فاجأ العالم وحكومة بغداد وجميع مفاصلها وأيضاً المراقبين جميعاً، عندما جعل المراسم جميعها باللغة الكوردية «ربّما شاهد وقائع المراسم والدفن عبر قناة كوردية، كون الإعلام العربي تجاهل عمداً عدم نقل هذا الحدث ببثّ مباشر»، وعزف سلاماً خاصاً لدولة كوردستان، وبحضور حكومة وبرلمان وساسة وقادة بغداد، ولم يعترض نفر واحد من هؤلاء.

– عرف كيف يوجّه إهانة بالغة إلى رئيس البرلمان سليم الجبوري، عندما جعله بعد وزير الداخلية قاسم الأعرجي بوضع الزهور على جثمان الطالباني، ولم ينهض بارزاني عندما عاد الجبوري لمقعده، بينما نهض إلى الأعرجي.

– نجح بارزاني باستغلال المناسبة خير استغلال، لصالح مشروع دولة كوردستان، عندما استغل النقل التلفزيوني العالمي للمراسم، بحيث جعل العالم من أقصاه إلى أقصاه يشاهد البنية التحتية لهذه الدولة التي تريد أن تولد، ويشاهد علمها وبروتوكولها وتنظيمها ولغتها وموسيقاها العسكرية وسلامها الخاص، أي نجح في أن يقنع العالم بأن هناك دولة كاملة لا ينقصها إلا الإعلان عنها.

– نجح بارزاني بإفشال ساسة وقادة بغداد بعيون جماهيرهم، الذين يبيعون العنتريات والشعارات الوطنية زوراً، ونجح أن يقول للعالم أن ساسة وقادة بغداد حاضرون وموافقون على جميع المراسيم والطريقة، وأنهم ينافقون أمام جماهيرهم والعالم، بدليل لم يعترض أحد.

– أراد بارزاني أن يشاهد ويسمع ساسة وقادة بغداد والعالم أجمع أن الكورد لحمة واحدة، وليست هناك خلافات فيما بينهم، وبدليل أن كل شيء تم بإشراف بارزاني «هناك الآلاف من الكورد وبعقول بارزانية أداروا ونظموا مراسم التشييع» ولصالح دولة كوردستان، ومنها وضّح للجمهور العراقي وللعالم أن قادة وساسة بغداد سذج وجهلة، ولم يفهموا في السياسة شيئاً.

– نجح بارزاني في خداع الإعلام الحكومي في بغداد «بارزاني لم يحاول جذب الإعلام، بل الكورد أصبحوا يتصدّرون عناوين وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والعالمية»، وجميع فضائيات أحزاب السلطة عندما نشرت وبثت ما خطط له ويريده، بحيث أحرجت بعد ذلك، فقطعت البثّ، وانتقلت إلى خطبة الجمعة في كربلاء، فكان خزياً إعلامياً وسياسياً بامتياز. 

أعتقد، وبعد قراءة كل ما كتبه السياسي العراقي سمير عبيد، أن الرجل هنا يعترف باستفتاء واستقلال كوردستان، ويراه حقاً ومطلباً شرعياً «ضمنياً أراد دسّ السمّ في العسل، وخلق الفتنة»، رغم أنه كان غير صائب في تحليله لبعض الأمور التي حدثت في مراسم التشييع، ويطالب من الشعب العراقي بضرورة الاعتراف بدولة كوردستان، واعتبارها دولة جارة وصديقة، ويعملوا معها بمشاريع تجارية واقتصادية وأمنية، ليستطيعوا بمساعدتها على إعادة الأمن والاستقرار للعراقيين، ولتمتدّ إلى كل مناطق الصراع في الشرق الأوسط، وعدم معاداتها ومحاصرتها «بالنسبة لدول الحصار هم يعارضون الدولة الكوردية في العلن، ويعملون على تأسيسها وإعلانها في السرّ»، أي أن القضية هي حالة طلاق تام بين الطبقة العراقية الحاكمة والحكومة الكوردية.

 من جهته وصف جاسم محمد جعفر نائب عن ائتلاف دولة القانون لقناة السومرية العراقية حيال لفّ جثمان الرئيس الراحل جلال طالباني بالعلم الكوردي «نواب عراقيون يغادرن مراسم التشييع، احتجاجاً على توشيح الجثمان بالعلم الكوردي» بدلاً عن العلم العراقي بأنه "خيانة وتقزيم له من عائلته"، معتبراً أن طعنة ثانية تصيب وحدة العراق، وكشف أن نقل الجثمان مباشرة إلى السليمانية جاء بإصرار من عقيلته هيروخان طالباني. 
لعلّ قادة بغداد كانوا يعتقدون أن الطائرة ستهبط في بغداد، وأن بروتوكولات التشييع الرسمية ستكون بالعلم والنشيد العراقي، وبحضور مسؤوليهم وسفراء الدول الأجنبية، لكنهم تناسوا أن الرئيس الحالي للعراق هو فؤاد معصوم، الذي ترأس الحكم بعد أن أصيب الرئيس الراحل بوعكة صحية، فبقي بعدها أميناً عاماً لحزبه، وشخصية كوردية سياسية بارزة «لِمَ لم يعلن العراق عن حداد وطني؟». 

ولا يجب أن ينسى كل مَن عبّر عن احتجاجه وغضبه، في عدم لفّ جثمان الرئيس الراحل جلال طالباني بالعلم العراقي، وتشييعه بمراسم عراقية، عليه أن يسأل نفسه ”لماذا جميع القادة الشيعة في العراق يلفون بالرايات الشيعية، وليس العلم العراقي؟“، ووقف قنوات عراقية بثها المباشر، كانت ذريعة غير منطقية، فهو قائد وسياسي ورئيس ناضل لستين عاماً، لأجل كوردستان وشعبه وقضيته القومية، فيحق له أن يلفّ بعلمه وببروتوكول كوردستاني، وبين شعبه.

خلاصة الكلام، فإن بارزاني لم يعطِ وحده دروساً في أبجديات السياسة والحكمة لمعارضي دولة كوردستان وقادة بغداد، ولمَن فرضوا الحصار على لاجئيهم العرب ممَن يعيشون في كوردستان بأمان واستقرار قبل أن يفرضوها على الشعب الكوردي، بل الجميع عمل على إعطاء تلك الدروس، ابتداء من الراحل الخالد جلال طالباني «غادر دورتي رئاسته دون أن يكون ديكتاتوراً» وقوات البيشمركة والبرلمان والمسؤولين والسياسيين، بتوحيدهم في وجه الديكتاتورية كَلَكمة وكلمة واحدة، وبإعلان دولتهم بكل إرادة وشجاعة «دولة للسلام وليست للحرب»، فهم عرفوا كيف يجذبوا لفت أنظار العالم إلى دولة كوردستان المستقبلية، بشكل حضارة وتنظيم جماعي فاعل، وعرفوا كيف يردون على خصومهم السياسيين في بغداد، وتعليمهم السياسة الحقيقية، دون خباثة أو خيانة. 
ولعلّ ظهور هيئة رئاسة برلمان كوردستان معاً في وضع الزهور على جثمان الراحل كان صفعة قوية لممثلي إيران والعراق، ودليلاً كبيراً على أن الكورد يتوحّدون، رغماً عن أنوف الظروف والفاتنين والفوضويين. 

كاتب وصحفي كوردي