في روايته البديعة : "الفيكونت المشطور"، يروي الكاتب الإيطالي الكبير إيطالو كالفينو، قصة رجل من مدينة جنوة يدعى مادارد، ينطلق لخوض الحرب ضد الأتراك ضمن جيش الإمبراطورية الرومانية-الجرمانية "المقدسة". وفي المعارك التي درات في مقاطعة "بوهيميا" في بلاد تشيكيا، هو يظهر شجاعة مُدْهشة. وكان يواجه المدافع بسيفه. وفي النهاية تصيببه قنبلة، فلا تُبْقي منه سوى نصفه الأيمن. وبنصفه الأيمن هذا يعود إلى بلاده ليظهر منذ البداية قسوة لا مثيل لها. فهو يخرب كل شيء يعترض طريقه، ويشطر خصومه إلى نصفين، ويعامل الجميع، بما في ذلك أقرب الناس إليه، بعدوانية مخيفة. وهو يكثر من إصدار أحكام الإعدام، مُجْبرا الحرفيين، ورجال الدين، وأهل العلم على الخضوع له، وإطاعة أوامره. ومعلقة على سلوكه الفظ هذا تقول عجوز حنّكتها تجارب الحياة بإن مادارد عاد من الحرب ضد الأتراك ب"نصفه السيء". ولما أشرف على الشيخوخة، تزوج مادارد من فتاة راعية تدعى باميلا. وشيئا فشيئا تلاحظ هذه الراعية أن زوجها يأتي أحيانا بأفعال محمودة، ويسلك سلوكا معتدلا وإنسانيا. لذلك تعلق قائلة بأن نصفه الآخر الذي ظنّ الجميع أنه فقده إلى الأبد بدأ يعود إليه. وهذا النصف سيجعله يعيش ما تبقى من حياته "من دون أن يكون لا خبيثا تماما، ولا طيّبا تماما".
رواية كالفينو هذه تبدو وكأنها تشخّص الوضع في إيران منذ سقوط نظام الشاه في أواخر الثمانينات من القرن الماضي وحتى هذه الساعة. فقد صادر الخميني الثورة الشعبية لصالحه ليشطر البلاد إلى شطرين:شطر مناصر له، وشطر معاد له. و بسبب القسوة التي أظهرها تجاه خصومه السياسيين، وتفننه في قتلهم وتعذيبهم، وتشريدهم، والتمثيل بهم، إنتصر الإمام الخميني، ليصبح الشطر المناصر له، مُتحَكّما في مصير إيران، مُسلطا على الشعب قوانين مجحفة، ومظالم لم يعرف لها مثيلا حتى في عهد الشاه. ولكي يفرض سلطته الدينية على جميع المسلمين ليصبح ناطقا باسمهم، لم يتردّد الإمام الخميني في تحريض أنصاره على تصدير "الثورة " إلى البلدان المجاورة، مُشهرا الحرب على العراق، وسالكا سياسة عدوانية تجاه جيرانه في منطقة الخليج تحديدا. ولا يزال هذا الشطر السيء يسيطر على السلطة، ويتحكم في كلّ خيوط الألاعيب السياسية، سالكا نفس السياسة القاسية والفظة التي كان قد سلكها الخميني تجاه الخصوم في تلك الفترات الحالكة التي أعقبت سقوط نظام الشاه. ويمثل هذا الشطر السيء علي خمائني، الذي يحكم إيران بسلطة "إمبراطور" أشد قوة وبطشا من الشاه في أوج عزه، وقوته، ومعه الحرس الثوري وجناح"قوات القدس" المكلفة بالعمليات العسكرية الخارجية، ورجال الدين الذين لا يزالون خاضعين لسلطة الخميني الدينية. إلاّ أن الكثير من الأحداث والوقائع أثبتت وتثبت أن الشطر الثاني الذي يتميز بالإعتدال والتسامح، لم يمت كما يظن أعداؤه، ليبرز على السطح بين الحين والحين. وخلال السنوات الأخيرة، ظهرت في مدينة قم التي كانت تحتضن خلال سنوات حكم الشاه، ونظام الخميني، أكثر رجال الدين راديكالية، وإنغلاقا، مجموعة من رجال الدين الشبان مناصرة للإنفتاح على الثقافة الغربية، ورافضة لكل شكل من أشكال التعنت والتصلب. وهذا ما أشارت إليه مجلة "فلسفة" الفرنسية في عدد من أعدادها الأخيرة. وقد تجلى الشطر المعتدل والمتسامح في تمرد الأجيال الجديدة ضد القمع، وضد مختلف مظاهر الإستبداد التي تسم سياسة الجمهورية الإسلامية داخليا وخارجيا. كما تجلى في السينما التي شهدت خلال العقد الأخير تطورا هائلا لتحتل مركزا عالميا متقدما، عاكسة صورة مشرقة للمجتمع الإيراني الطامح للحرية، والديمقراطية، ولحياة أفضل. ويبدو أن الصراع قائم الآن على أشده بين الشطرين المتضادين. وسيكون مستقبل إيران مرهونا بالنتيجة النهائية لهذا الصراع الذي سيكون شاقا وطويلا.