"أصل الحقد يكمن في كون أخطاء الآخرين أكثر لمعاناً من أخطائنا"
مثل روسي

عودتنا قراءات الأحداث وتجارب الأمم وحكايا المجتمعات على أن ما قد يحدث في أصغر مكانٍ في العالم ربما كان مماثلاً تماماً لما يجري في مرابع أخرى أكبر منها بعشرات المرات، وأن قيام شخصٍ ما في جزيرة صغيرةٍ نائية بتصرفٍ أخرق بناءً على الحسد والغيرة والحقد الشخصي، قد لا يختلف عن ممارسات سياسيٍّ كبير في بقعة أخرى من وجه الكرة الأرضية ولعل الأخير يكون أسوأ ربما بعشرات المرات من تصرف الفرد البسيط الأخرق، بما أن ما يجمع بين الجاهل الأخرق والسياسي الحذِق هو الحقد والحسد مضافاً إليهما هاجس الانتهازية والمنفعة لدى الفئة الثانية بخلاف الأولى.
لذا فلن نتحدث ههنا عما نشرته بغداد بوست في 17 /10/ 2017 تحت عنوان "خيانة عظمى.. بافيل طالباني وأمه يسلمان كركوك للحشد الطائفي نظير صفقة رخيصة مع سليماني!" ولا كذلك سنورد ما كشفه محافظ كركوك نجم الدين كريم، عن تفاصيل ليلة الهجوم على مدينة كركوك للصحفي الأمريكي إيلي ليك، في لقاءٍ أجراه الصحفي مع كريم ونشرته صحيفة بلومبيرك Bloomberg يوم الخميس وترجمته للعربية وكالة باسنيوز، وكيف أنه تلقى إنذاراً قبل ليلة من الهجوم بإخلاء مقراته من قبل بافيل طالباني وآخرين بعد أن التقوا بممثلي قاسم سليماني في كركوك، كما لن نتحدث عما صرّح به ريبوار طالباني رئيس مجلس محافظة كركوك الذي طالب بمحاكمة الذين سلموا المدينة للحشد الشعبي، داعياً إلى ملاحقتهم بكون أن تسليمهم المدينة لرجالات قاسم سليماني تسبب بتدمير مئات المنازل ونهب العشرات منها واستشهاد العشرات وتهجر الآلاف من أبناء المدينة، إنما سنلجأ إلى مقاربة سلوكية صرفة بين أناسٍ حُمقٍ جهّال في قرية كردية نائية في سورية، وسياسيون من أهل المعرفة في مدينة السليمانية بكردستان العراق التي يفتخر الكثير من أهلها بالتحضر والرقي والليبرالية.
إذ يُحكى عن إحدى قرى منطقة عفرين أن جميع سكانها حُرموا من نعمة الكهرباء أكثر من عشر سنوات لسببٍ بسيط جداً وهو الحقد الذي يكنه بعض الأفراد من عوائل القرية تجاه مبادرات أبناء عائله أخرى لديها علاقات ودية مع الغير وتتمتع بنفوذ اجتماعي لا بأس به في عموم المنطقة، إذ يقال عن العائلة التي كانت ترى نفسها معنية بإفادة القرية وتقديم الخدمات لأبنائها بما كان متوفراً وممكناً تحقيقه لكل سكان القرية من خلال علاقاتهم الجيدة، وكذلك بفضل حسن إدارتهم وتواصلهم مع الآخرين، ومن ثم بُعد النظر لديهم بخلاف باقي أفراد القرية ممن لم يكن يشغل الشأن العام بال أحدٍ منهم، إنما المكاسب الشخصية هي من كانت أعظم قضية لديهم أجمعين، ومع إدراك أهل البناء من تلك العائلة الغيورة على قريتها بأنهم معنيون بالقيام بأي عملٍ يفيدون به كل أهل القرية بغض النظر عن مآرب وغايات من يكرهونهم من غُواة التخريب من بين أبناء القرية، حيث أنهم لم ينشغلوا حتى باحتمالية أن يخرج إليهم ومن دون أي تفكير مَن يحذرهم من عواقب ما يقدمون عليه رغبةً في تفشيل المشروع الذي ينوون القيام به، إنما كانت ثمة قاعدة ثابته لدى أهل الخير، وهي أنهم سيسعون جاهدين لجلب كل ماهو مفيد للقرية بالرغم من جهل الجاهلين ورهط الحُساد في القرية، وشعارهم الدائم أن عليهم أن لا يتوقفوا عما يؤمنون به طالما أنه يجلب المنافع لعموم الناس على اختلاف العوائل، وهكذا انطلق أحد متعلمي تلك العائلة إلى مؤسسات الدولة مستفيداً من موقعه الوظيفي، وكذلك تعويلاً على سمعته التي لم تتلطخ بأي فعلٍ قبيح طوال عمره، وفبعد مضي شهور من الركض المتواصل بين مكاتب موظفي مديرية الكهرباء في مدينة حلب والعاصمة دمشق استطاع أن يمسك بأهم خيط سيقوده لاحقاً إلى تحقيق هدفه السامي ألا وهو جلب الكهرباء لأهل قريته، وبعد أن أحكم الساعي قبضته على الخيط وجهّز ملفاً كاملاً جامعاً فيه التواقيع والموافقات والالتماسات والمطالب، عاد إلى أهل القرية ليشاورهم في كيفية التعامل اللاحق مع موظفي الدولة إذا ما باشروا بالعمل بعد تحديد وتخصيص الميزانية لمشروع إيصال التيار الكهربائي، وكيفية التعامل مع المستجدات إذا ما أتت المؤسسة الحكومية بعمالها وآلياتها إلى القرية، وبالضد من مساعيهم وفي غمرة حماسهم في استجلاب الخير العام، نسيوا بأن ثمة بشر أينما كانوا يظل همهم الأوحد وديدنهم هو الامتعاض من أي فعلٍ حسنٍ يصدر من الغير، كما يغيظهم تداول الناس لمواقف مشرفة لأحد أبناء القرية، ويجلجل بنيانهم أن يفعل أحدهم شيئاً هم لا يستطيعون فعله أو حتى محاكاته.
ولأن هواجس الحقد والحسد والنكاية ماكثة في أعماق الواحد منهم، وجاهزة للتعبير عن نفسها تجاه أي شخص قادر على أن يكون أخيَر منهم، لذا لم يقدروا على ضبط مفاعيل الضغينة التي كانت تتحرك وتضرب ألسنة نيرانها بأجوافهم، كما تُحرّك بضع غُريمات من اليورانيوم مصنعاً أكبر من حجم عشرات القرى مثل قريتهم. 
إذ أنه ومن ساعة انتشار خبر القدوم المحتوم للكهرباء إلى القرية راح أهل الحسد والسخائم فيها يعملون على بث الشائعات وتداولها بين الناس بهدف التأثير على الرأي العام وتأليبه لكي يقفوا جميعاً بوجه مشروع تنوير الضيعة، ومن تلك الشائعات قالوا: بأن موظف الدولة يبقى جشعاً وما أن يُقدم بعضهم إلى القرية للقيام بما يتوجب عليهم فعله، فإنهم سيصبحون كالأثقال على متون الأهالي من ناحية السخرة وتقديم الطعام اليومي لهم، وثمّة من قال بأن لنا نساء يذهبن إلى النبع في اليوم كذا مرة وموظفو الدولة لن يغضوا أبصارهم عن النسوة وهن ذاهبات وآيبات في دروب القرية، ومنهم من قال بأنه إذا ما سرق أحدهم إحدى آليات الدولة فمن سيتحمل مسؤولية سرقتها؟ ومنهم من قال بأن حفر أماكن أعمدة الإنارة قد يؤدي إلى التأثير على المياه الجوفية! وهكذا توالت الشائعات الساذجة إلى أن صار مناخ القرية شبه رافض لأنوار الكهرباء، وغدوا يفضلون المكوث في ظل الفوانيس بفضل ظلمات عقول رهطٍ حقودٍ حسود ولكنه فاعل ومؤثر على الكثير من أبناء القرية الذين يطيب لهم السير خلف شائعة واحدة ولوكها شهراً كاملاً، ولا يطيب لهم التفكير بأبعاد مسألةٍ ما وإيجاد الحلول اللازمة لها ولو لمدة نصف ساعة.
والموجع أكثر في موضوع تيار القرية أنه لم يخرج أحد المنصفين، أو من يسمون حالياً بالمستقلين أو الموضوعيين من أبنائها ليقول لمحيك قصة إطعام الموظفين: بأن خسارة بضع دجاجات قد يكون أفيد مئة مرة من أن تبقى القرية ماكثة في ظلام دامس، ولا جاء على بال أحد المتفرجين من أهل الحياد ليقول لمختلق العراقيل بأن موظفو الدولة أصلا ليسوا بحاجة إلى دجاجاته، أو القول بأنهم ربما كانوا أكثر تحضراً من أهل القرية وأنهم أصلا لن يستسيغوا تناول الطعام لدى أناسٍ متخلفين في طبخ الطعام وإعداده، كما لم يقل أحد المنصفين لصاحب فكرة النظر إلى النسوة بأنه قد يكون من بين موظفي الدولة إناث! أو يقال لهم بأن المرأة لا يُدنس كرامتها بالنظر يا أوادم، وإلا فما من امرأة تكون قد حافظت على شرفها في المعمورة كلها طالما أن للناس كلها عيون ونواظر، ولا جاء من يقول لمختلف قصة سرقة الآليات بأن الدولة هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن آلياتها وليس نحن، وأن من يسرق شيئاً هو من يتحمل وحده نتائج قبح تصرفه وليس كل أبناء القرية، ولكن العكس تماماً هو ما حصل حيث أن معظم أفراد القرية انساقوا مع مطلقي الشائعات ووقعوا ضحايا خبث مطلقي الدعايات، ولم يعطوا أنفسهم الحق في التفكير بمنافع الكهرباء، وما الذي سينجزونه في المستقبل من خلال الكهرباء؟ وماهي المشاريع التي ينبغي عليهم التركيز عليها لتكون على أهبة الاستعداد للانطلاق بها بُعيد وصول التيار؟ إنما الإنشغال بالدعايات السخيفة هو ما دفع بأهل القرية لينسوا كل إيجابيات الكهرباء وأهميتها التي لا يقدر على إنكارها أي بشريٍّ عاقل في العالم، وهو بالتالي ما تسبب بحرمان تلك القرية من نعمة النور إلى حين، حيث ومن خلال الانسياق مع الغايات الخبيثة لرهطٍ مريض تأخروا عن القرى الأخرى في تذوق طعم الراحة التي تجلبها الأجهزة العاملة بالتيار الكهربائي، باعتبار أن الجهل العام والحسد والضغينة الكامنة لدى فئة من الأفراد كان وراء إبقاء القرية بلا أنوار لأكثر من عشر سنوات!. 
وختاماً فبناءً على القراءة السلوكية والدوافع الرخيصة لممارسات مَن تحدثنا عنهم، فإن ما حصل في تلك القرية النائية والمرمية في أبعد منطقة كردية في سورية، حصل مثله وأعظم على مستوى إقليم كردستان ككل في الآونة الأخيرة، ولكن يبقى أن مصيبة الإقليم أكبر وأفدح من مصيبة سكان تلك القرية، بما أن ضرر الأخيرة أعظم من حالة قريةٍ واحدة، وكذلك باعتبار أن مَن كانوا يعرقلون ويمنعون التقدم في تلك القرية النائية كانوا مجموعة جهّالٍ حسودين حيث كان الحُمق مع الحقد والغيرة وراء عملهم التخريبي، بينما في كردستان العراق فمن لا وظيفة لهم غير العرقلة والتخريب هم من عليّة المجتمع، وهم من الذين زيدَ على سجية الحسد والضغينة لديهم هواجس المنفعة المادية الصرفة، وذلك حتى ولو كانت منفعتهم تلك ستكون كارثية على مجتمعٍ بأكمله، أو تكون على حساب حرمان كل سكان الإقليم وللأبد من نعمة السيادة والكرامة والإباء! وحيال الطامة السلوكية الكبرى التي أقدم عليها بافيل ورهطه لا يسعنا إلاّ أن نذكّرهم ونذكّر كل من كان مِن حاملي فلسفة الحقد والحسد والشحناء بما قاله البحتري: "إذا أنت لم تضرب عن الحقد لم تفز بشكر ولم تسعد بتقريظ مادح".