دون اللجوء الى تعريفات غير مستقرة ومختلفة من بلاد لأخرى ادخل في صلبها واقصد الفدرالية في العراق و ربما في سوريا ايضا كتحصيل حاصل. هناك تشابه نادر بين سوريا والعراق، و " وحدة طبيعية " تاريخيا واجتماعيا واثنيا و شئ من الجغرافية و في مشتركات حدودهما السياسية كدول حديثة، ربما بأستثتناء الأطلالة السورية على البحر المتوسط، سرة الحضارات. هناك وحدة ثقافية – اجتماعية، تجلت في الأدب ولعصور طويلة قبل ان تكون اللغة العربية لغة رسمية للبلدين. لن نمضي ابعد من الآرامية كلغة سادت البلدين قبل الفي سنة من اللغة العربية، ومازالت لغة يومية في بعض القرى والنواحي للبلدين. هذه الوحدة الحضارية سبكت ذهنية مشتركة بين الشعبين على صعد عدة. المتنبي العراقي " الكوفي " كتب اجمل شعره في الشام حينما كانت حلب السورية دولة اشبه بفدرالية. البحتري السوري " الحلبي " يعتبره الغلبة من الأدباء والمؤرخين عراقيا. ومازلنا نحتار في جنسية ثالثهم ابو تمام " الحوراني "؟ قس على ذلك الكثير، بما في ذلك حزب البعث الذي لم يحكم الا في هذين البلدين.قوة عاطفية مازالت تجمع الشعبين وكأنهما كائن واحد برأسين، بعاصمتين، بدولتين، هما اليوم في طريق التفكك.

الى حد كبير ما ينطبق على سوريا ينطبق على العراق، ربما بسبب القدم الحضاري الذي هرس تاريخ الشعبين، الملل والنحل كلها، ومازال.قوة الدول المحاددة لهما كأيران وتركيا والسعودية، كانت وما تزال، في انفصالهما وتبعثرهما الذي يصل اليوم الى مفترق طرق تاريخي. في وحدتهما تتغير المنطقة برمتها اذ ستصبح بلادا نادرة تبدأ من سواحل البحر المتوسط وتنتهي عند الخليج الفارسي. حينذاك سيصبح البحر الأحمر برزخا ولن يكون، كما قال استراتيجي بريطاني ايام قوة الأمبراطورية " بأن من يهيمن على البحر الأحمر سيملك الشرق كله ". وهذا بالضبط ما حاولته الأمبراطوريات الفارسية و الرومانية ومن ثم البيزنطية ثم امبراطوريات الأسلام ثم بريطانيا و وريثها الشرعي الولايات المتحدة الأمريكية.

هذه الخلاصة تخفي تاريخا طويلا من الصراعات والحروب الطويلة، بين امبراطوريات الشرق والغرب ورد ذكرها حتى في القرآن.على هذا المنوال فأن سورة الروم تعطي فكرة عن التحالفات التي مازالت فاعلة حتى اليوم ضد التوسع الفارسي و وعد الله بأنتصار الروم؟. فالمنطقة هذه، بين المتوسط والخليج، هي المسرح النموذجي، تعبويا، لصراع الحضارات قبل ان توضع، هذه الأخيرة، في نظرية سياسية معاصرة اواخر القرن العشرين.

وعودة على بد ء، ومنذ سنوات، خصوصا بعد فوضى الربيع العربي الذي تحول الى حروب اهلية طاحنة للبشر والعمران في المنطقة كلها تقريبا، تنذر بأشتعال بؤر جديدة لحروب اطول، تطحن ماتبقى، في بلدان اخرى مازالت تنعم ببعض السلام الشكلي. كثر الحديث عن دول الطوائف القادمة التي ستسلم مفاتيح غرناطة من جديد، لكن هذه المرة الى اسرائيل وكأن التاريخ يعيد تكرار نفسه لولبيا في دوائر لا تنتهي تدور علينا قبل غيرنا كشعوب " كتب عليها القتال " في حرب الألف سنة.

للدولتين عقبات متشابهة وبالتالي، حتميا، فأن الحلول ستكون متشابهه بشكل او بآخر.الفدرالية التي صارت لغطا للجميع، دون ان تكون حديثا عقلانيا، هي واحد بل، ربما، الحل الأنجح لأعادة نسج التاريخ بذات خيوطه القديمه، دون فقدان قماشة التاريخ والجغرافية و الأقتصاد وحميمية الوطن الواحد. لكن أي فدرالية؟

هل تقتدي بالنموذج الهندي، شبه القارة الهندية، بلاد ال 300 لغة وال 700 لهجة واديان ومذاهب الأرض كلها؟ ام بالنموذج الأميركي، بلاد المهاجرين الذين ضاقت بهم اوربا والعبودية التي اشعلت بينهم حربا اهلية؟ ام بالنموذج السويسري، الذي هو العقد السياسي بين قبائل مشاغبة ضاق بها الجرمان والفرنسيون والايطاليون فطردوهم الى جبال الألب؟ ام بالنموذج الألماني بعد حربين عالميتين وأبادات لشعوب مجاورة؟ ام بنموذج ايطاليا التي توحدت قبل اقل من قرن ونصف بقيادة الثوري الأممي جوسيبه غاريبالدي؟ ام بالنموذج الأسباني، الأحدث والأقرب الينا، الذي كان تتويجا لنهاية الخراب الذي احدثته الحرب الأهلية والحقبة الفرانكوية في انسجة الشعوب الأسبانية، والذي كان عربون اسبانيا للدخول في اوربا، بعد قطيعة سنوات فرانكو العصيبة؟

اقترحت الفدرالية لأول مرة في الشرق الأوسط في مفتتح تسعينات القرن الماضي في توصيات المؤتمر الوطني العراقي المعارض لصدام حسين في خريف عام 1992، كحل للقضية الكردية في عراق ديمقراطي قادم.لحظة سقوط نظام صدام حسين في 2003 اعتبر اقليم كردستان العراق نفسه فدرالية، قبل ان يقر الدستور العراقي الذي ثبتها كبند من بنوده. حينها ولسنوات دموية ارتفعت اصوات المطالبين بفدراليات انتقامية. اهل الجنوب يريدون فدرالية لهم تقطع واردات نفطهم عن بقية " اجزاء " العراق. اهل الأنبار في الغرب العراقي طالبوا بفدراليتهم التي تقطع المياه عن الجنوب. الأقليات المذهبية والدينية والقومية طالبت بفدراليات لهم، تحميهم من الآخرين؟ هكذا صار كل من القاضي والمتهم والشاهد يطالب بفدراليته ليبز بها الآخر. في الفوضى السياسية والثقافية العراقية تساوى هوى الفدرالية وهوى كرة القدم. كل جمهور يشجع فريقه في جعجعة طرشت الآذان وسالت فيها دماء قبل ان تأتي داعش، وتحتل ثلث البلاد، لتوقف لحين صوت الجعجعة وتستبدله بدوي المدافع.

طوال 12 عاما لم تتقدم فدرالية كردستان خطوة واحدة في تطبيق مفهوم الفدرالية و شروطها السياسية والقانونية والأقتصادية والأجتماعية، بغض النظر عن المنجزات الشكلية، التي لللأسف، ينظر اليها البعض،اكرادا وعربا كمنجزات تاريخية. لكن هذه المنجزات، وبغض النظر عن تقيمها، لم تتمكن من اخفاء هشاشة الفدرالية نفسها والتي كشفتها احداث تشرين الأول الجاري كهزيمة لطرف وانتصار لآخر.عبثا.أولياء الدم والدعاة لحدود الدم،والعاقل تكفيه الأشارة.

منذ الأعتراف بها دستوريا وضعت فدرالية الأقليم الكردستاني العراقي نفسها في عزلة. حدود الأقليم نفسها اصبحت مشكلة حينما اصبحت مثل حدود فاصلة بين دولتين، رغم عدم اعتراف الأقليم بها كحدود نهائية. التخصيصات المالية من الخزينة المركزية اصبحت عقدة عراقية، مدعاة للتشكيك، مرة بأعتبارها من بقايا تشريعات برايمر ومرة عدم دقتها قياسا للتوزيع السكاني. البشمركة اصبحت عقدة اخرى، فبدلا ان تكون حرسا للأقليم اصبحت قوة ضاربة ومتحفزة خلف خنادقها المدججة بالسلاح و ستائرها الترابية بمناظير تراقب تحركات جيش الدولة التي تحمل علمها في مشاهد تشبه فصول

صحراء التتر، رواية الأيطالي بيزاتي..العلاقة مع الحكومة الأتحادية اصبحت رقصا على تحالفات سرعان ماتتغير الى عداوات.الحكومة الأتحادية نفسها اهملت الأقليم بسبب انشغالها بأجزاء البلاد الأخرى التي لم يتوقف فيها الأرهاب والفساد المالي والأداري. لم يبق من العلاقة بين المركز والأقليم سوى المناصب الشكلية في البرلمان والحكومة في بغداد والصرف السنوي لميزانية الأقليم الفدرالي.

كرست العزلة الأرادية لأقليم كردستان العراق نظاما فدراليا نادرا، دولة داخل الدولة شبه مستقلة بل مستقلة بأداراتها وجيشها وعلاقاتها الخارجية واتفاقياتها الدولية... الخ. ما بقي خارج نطاق الأستقلال هو خزينة الأقليم القادمة من بغداد، الشريان الأبهر للدول عبر كل التاريخ؟.خلال ذلك كان التوتر السياسي والعاطفي بين الأقليم والمركز يأخذ صيغا مبالغ فيها لدى الطرفين.الماضي المأساوي للأكراد وللشيعة ثم للسنة لاحقا كان في حضور دائم امام حل أي مشكلة وكل طرف يتذرع بمظلوميته التاريخية؟ وبحكم المظلومية صار طرف يستفز الآخر حتى صار الأستفزاز ثقافة شعبية، تبشر بقطيعة لا منجى منها.

كما البصرة وعائلاتها التي كانت تحلم بأن تكون أمارة نفطية فأن حلم الأقليم وعوائله الحاكمة كان كذلك حلم فانتازي كبير هو ان يصير امارة نفطية تضاف الى قائمة الدول الكسولة" الريعية " دول المعجزة النفطية، هبة السماء في الأرض المباركة. لا ينكر محايد حجم الفساد المالي والأداري في اقليم كردستان والذي يبدو منظما وممركزا و عائليا اكثر من مثيله في بقية انحاء العراق. من حق كل عراقي ان يسأل كيف حال الزراعة وحال الصناعة في كردستان وهل اعيد بناء مصنع السليمانية للسكائر؟ وهل سياحة الهاربين من بغداد، مؤقتا، بسبب قيضها السياسي تكفي دخلا قوميا؟ لا شئ يبشر بخير في هذه المجالات بعد ان تحولت كردستان، شأن بقية العراق الى سوق كبير، مدر، للزراعة والصناعة التركيتين وبقية دول الجنوب الآسيوي.

احداث كركوك الأخيرة كشفت الهشاشة الكبرى لأقليم كردستان العراق وان طلائعه السياسية غير موحدة وان جيشه منقسم وانه ايضا اقليم طوائف متخلف عن الديمقراطية المزعومة،، مقسم من الداخل وان اهدافه غير واضحه وان قوانينه محض خطب و وعود. لعل بيت الرصافي المشهور يصح على كردستان مثلما صح على عراق الثلاثينات. اذا لم تكن التجربة فاشلة فأنها نصف فشل. لا يسع مقال واحد لتقييم تفاصيل التجربة وذلك من شأن ذوي الأختصاص من المحايدين.

المنطق التبسيطي لمشاكل الشعوب لا يحل مشاكلها المعقدة. تلك حقيقة مثل كروية الأرض التي تفرض الف استعمال واستعمال في حياتنا اليومية. ان اغلب الفدراليات في العالم، من المكسيك حتى الولايات المتحدة والمانيا وسويسرا واسبانيا والهند... الخ مبنية على شروط طبيعية وتاريخية ودينية وقومية واقتصادية في نفس الوقت. من الصعب اقامة نظام فدرالي مبني على الأنتماء القومي فقط قد يوصل الى طريق يوغسلافي، تطهيري. طريق مسدود، كما هو مسدود اليوم في كاتولنيا الأسبانية. وهو مسدود منذ سنوات على اقليم الباسك الأسباني، رغم ان كاتولنيا والباسك، شأنهما شأن كردستان، موزعين على دولتين هما اسبانيا وفرنسا الديمقراطيتين.

بني مشروع الفدرالية لكردستان في المؤتمر الوطني العراقي على اساس قومي بحت لأعتبارات سياسية في حينها تتعلق بالقضية الكردية وتاريخها. كان شعارا ساذجا اكثر منه حقيقة ناضجة تستوعبها القيادات الكردية اولا والشعب الكردي ثانيا، سياسيا او ثقافيا. لم يتغير المشروع بعد اقرار الدستور العراقي وقبل ذلك اعتبر مطلبا مطلقا وشرطا للبقاء في جغرافية العراق السياسية. نفذ فوقيا

بخلق مؤسسات ذات واجهات ديمقراطية من رئاسة وبرلمان وحكومة وجيش مزدوج الولاء اقليميا ومزدوج الولاء وطنيا. لم تفكر لا حكومة المركز ولا الأقليم في منطق الجغرافية والسوق الأقتصادية

وبناها التحتية بما فيها من زراعة و صناعة وطرق تجارية وسدود وانهار ومحطات طاقة... الخ. تجنبت الأطراف " المعنية " التفاوض في هذه الأولويات، بسذاجة سياسية مطلقة، كأنها وضعت، منذ البدء، قنابل موقوتة للمستقبل، انفجرت قبل حينها في كركوك وما سمي بالأراضي المتنازع عليها." التسمية منذ البداية تبشر بحالة حرب ". فسهل نينوى، مثلا، له اهمية استراتيجية واقتصادية للطرفين، المركز والأقليم معا وكذلك كركوك التي لها خصوصيتها قبل ان تصير " قدسا " ليس بقبة صخرتها بل بنفطها. مالعمل؟ الشرط الأقتصادي واضح لكلا الطرفين..الديمومة السياسية تستند الى قاعدة اقتصادية. كردستان، بواقعها الراهن فقيرة اقتصاديا وبدون بغداد لا تستطيع دفع رواتب موظفيها، فكيف بالنمو القادم للمجتمع الكردستاني؟

ان فدراليات عراقية قادمة لن تستطيع العيش بالشعارات القومية او المذهبية. بدل ذلك هو مشروع الفدراليات الأقتصادية، فدراليات الأنتاج والسوق المتكامل والتنوع الثقافي، التي تأخذ بنظر الأعتبار الأكثريات والأقليات قوميا ودينيا ومذهبيا وحسن تمثليهم في برلماناتها وحكوماتها. نظرة تاريخية وأخرى معاصرة تكشف لنا ان العراق، اقتصاديا، يرتكز على خمسة اقاليم زراعية متخصصة لكل منها نمط زراعي ونوعيات انتاج واقتصاديات لا نجدها في اقليم آخر.جنوبا، شرقا، شمالا، غربا وبغداد مركز هذا الكون الصغير. انها اقاليم صنعها التاريخ والجغرافية والدين ونظام الأنتاج الزراعي وانواعه بجانب نظام علاقات اجتماعية وطقوس ولهجات واذواق.هذه الأقاليم صنعها النهران، دجلة والفرات وسميا البلاد بأسمهما، قبل القوميات والمذاهب وسقوط اكثر من بابل في الشرق. أقاليم مسبوكة في بوتقة التاريخ و هي العراق مجتمعا حول سرته بغداد. بل ان بعض الأقاليم منفتحة على مثيلاتها في دول مجاورة.كذا الحال بالنسبة الى سوريا، من ساحلها المتوسطي وحلبها و جزيرتها وحورانها تجتمع حول دمشق.انها اقاليم جاهزة بخليطها من عرب واكراد وتركمان و آشوريين، بدو و حضر،فلاحين متشبثين بالأرض و موظفي دولة عابرين للأقاليم، رغم الأحتلالات التي بقيت تحت غبار عواصف التاريخ.....

صنع السعادة للمواطنين هو مهمة الدولة الأولى. الأمبراطوريات تشغل مواطنيها بالفتوحات والحروب وخطب الأباطرة. على شعوبنا الأختيار بين حلم الدولة السعيدة وبين كابوس الأمبراطورية الدامي؟