وصلت الى منتهى العمر ، وكادت العينان ان تنطفئا ، ورحت استعرض ، قدر المستطاع ، صفحات من الماضي .. وقد علمتنا تجارب الحياة الكثير، سواء من صفحات حياتي السياسية التي استمرت ربع قرن ، او في حياتي العائلية والشخصية. ومما تعلمته ان الخلافات الفكرية والسياسية يجب ان لا تطغي على العلاقات الاجتماعية والإنسانية ، وان الخلاف في الرأي والموقف أمر طبيعي ، إذ لا توجد حقيقة مطلقة ، وقد تكون هي بين بين ، أي بين الرأيين والموقفين. ان التزمت السياسي قد يصل في تأثيره السلبي لحد غير متصور. واذكر عن نفسي ، مثلاً مساء يوم من أيام 1959 أي بعد الثورة ، حين راح والدي الراحل ينتقد مواقف الشيوعيين من عبد الكريم قاسم ، ويصفها بالتسرع والتشدد. غضبت ولم اجب، وتركت الدار لمدة أسبوع، ثم عدت وكأن شيئا لم يحدث، ولم اعتذر. والتصلب السياسي والخلاف الفكري يشجعان على إطلاق النعوت الاتهامية على المقابل ، واستسهال استعمال حتى تعابير (خيانة) (انحراف) وما شابه. وفي حياتي السياسية اخطات كثيراً واسأت، كما أخطا آخرون و أساءوا، والمهم هو إدراك الخطأ والاعتراف به وتصحيحه. وكذلك الحال معي في حياتي الشخصية والعائلية التي ما خلت من أخطاء ومنزلقات ومطبّات.. والموضوع يقودني أيضا الى السياسة والتضامن بين البشر، واعني مواطني عالمنا في مختلف القارات، وباستثناء الدكتاتوريين و الإرهابيين وجميع أصناف الأشرار والمجرمين. فرغم كل وجهات نظرنا عن الأنظمة والحكومات وسياساتها لا فلا بد ان نشعر بالصدمة والتعاطف مع ضحايا الأعاصير والفيضانات والزلازل، هنا وهناك . وسمعت من فضائية العربية تقريرا عن فئة قليلة من مسلمي الولايات المتحدة ، اتخذوا موقف الشماتة بكوارث الأعاصير التدميرية ، ولحسن الحظ أنهم كانوا أقلية . وأتذكر إنني قرأت في شبابي أبيات شاعر فارسي قديم تقول إن البشر هم كأعضاء الجسد الواحد ، فاذا أصاب الألم جزءاً فان بقية الأجزاء ستتألم معه..

ومن تداعيات العمر الطويل وصولي الى قناعة بان الإبداع الأدبي والفني (بكل أشكاله) من الضروريات الحيوية للتقدم البشري ، وهو الابقى والأسمى, وان واحدنا بحاجة ماسة الى ان يتمتع ( وقدر الإمكان والمستويات) بمنتجات هذا الإبداع ، من شعر وموسيقى ورواية وأفلام, أنها تغّني المشاعر وتهذبها وترتقي بالإنسان , ولا باس ان تذرف جمعة لمشاهدة فيلم عاطفي مؤثر او رواية حزينة، فالدمع هو الآخر من دلالات الشعور الإنساني. ومن لم يعرف الدموع في حياته هو شبح إنسان، كما يقول الشاعر المبدع

نزار قباني ، وشخصيا ذرفت الدموع كثيرا في مشاهداتي وقراءاتي ، كما في التعاطف مع ضحايا الطبيعة والإرهاب والاستبداد. وذرفتها لذكرى أحباب رحلوا عن الحياة ، من أهل وأصدقاء ورفاق طريق ، وأيضا لرحيل قططي الراحلة مرجانه وريمي و دودو.

الإبداع يسموا بالإنسان والدمع هو الإنسان.