يصعب التنبؤ بما إذا كان إجراء انتخابات تشريعية قبل أوانها، في إقليم كاتالونيا الإسباني المقررة يوم 21 من الشهر المقبل، سيفرز مشهدا سياسيا مغايرا للذي تسبب في الأزمة غير المسبوقة التي عاشتها إسبانيا والإقليم خلال الأشهر الماضية؛ أي أن تتمكن الأحزاب التي تعارض فك الارتباط بالدولة الإسبانية، من الحصول على أغلبية في البرلمان المحلي، يتيح لها تشكيل ائتلاف يعيد الإقليم إلى جادة المشروعية الدستورية، ويبعد عن البلاد شبح الانفصال ولو إلى حين؛ريثما يعاد النظر، بشكل بنيوي، في العلاقات التي تحكم السلطة المركزية في مدريد بالحكومات المستقلة التي تسير الشأن المحلي في الجهات، ضمن الإطار الذي أرسى أسسه، دستور 1978 والذي أيده، وهنا المفارقة، الإقليم المتمرد بنسبة عالية.

والحقيقة أن أمام حكومة الأقلية الحالية التي يتزعمها الحزب الشعبي المحافظ، أجندات انتخابية كثيرة ومتعارضة، ضرورية للقطع مع الأزمات السياسية المتكررة خاصة وقد انتهت القطبية الحزبية إلى غير رجعة، بعد أن ضمنت للبلاد حكما مستقرا قرابة أربعة عقود، حققت البلاد خلالها تقدما على كافة المستويات، اعتبر خلالها الدستور الإسباني وثيقة نموذجية.لقد ظهرت على السطح قوى سياسية واجتماعية لم تعش مساوئ ديكتاتورية الجنرال فرانسيسكو فرانكو.

في هذا السياق، أكد استطلاع أخير للرأي أجرته مؤسسة ذات مصداقية، أن نسبة مهمة من الناخبين الإسبان، يفضلون إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها،على اعتبار أن حل أزمة "كاتالونيا" لا يمكن أن تضطلع به حكومة أقلية مثلما هو حال الحالية.فلولا التأييد الذي ضمنه الحزبان الاشتراكي و"ثيودادانوس" المعارضان، لواجه رئيس الوزراء، ماريانو راخوي، صعوبات لتمرير المادة الدستورية 155 أمام مجلس الشيوخ،التي حل بموجبها حكومة الإقليم السابقة، كونها نظمت استفتاء مطعونا فيه، تبعه إعلان جمهورية مستقلة ؛علما أن القضاء العالي حكم ببطلان كل المسارات التي اعتمدتها الأحزاب الانفصالية.

إن غالبية فرسان الانفصال الذين أعلنوا من جانب واحد، قيام الجمهورية الشهر الماضي، في مشهد غرائبي، ببرلمان برشلونة،هم نفسهم الذين سيطلبون ثقة الناخب الكاتالاني من جديد ؛ وبالتالي فالتخوف قائم إلى حد كبير من استنساخ فصول الأزمة في حال حصول أحزابهم على أغلبية في المؤسسة التشريعية، تمكنهم من إعادة كتابة السيناريو الانفصالي بإخراج جديد.

صحيح أن المنطق السياسي السليم، يفترض معاقبة الفاشلين الذين ورطوا الإقليم في أزمة دستورية، فلا يمنحهم الناخب الثقة. إذا لم يحصل ذلك فمعناهاستمرار مسلسل الخلافات واحتقان الأجواء السياسية في الإقليم الذي هربت منه حوالي 2000 شركة كبرى.

وعلى افتراض أن الناخبين، سيرجحون مصلحة الإقليم بعدم التصويت لصالح دعاة الانفصال، وقد برهنوا عن عجزهم وتخبطهم وشططهم الكبير في تدبير مشكل صنعوه ؛ فإنه ليس مضمونا فوز المتشبثين بالدستور والمشروعية ووحدة التراب الإسباني، بأغلبية مريحة في البرلمان المحلي،جراء عدم اتفاقهم من جهة، كما أن مؤيدي الانفصال لن يبرءوا بسرعة من الفيروس الذي حقنوا به لمدة ثلاثة عقود، جرى خلالها ترويج الأكاذيب وتزييف حقائق التاريخ لترسيخ الفكرة في الأذهان بأن الاستقلال يمثل الخلاص التام من هيمنة إسبانيا، التي لا يوجد ما يوحد الكاتالاني بها. كلاهما مختلف عن الأخر.

والملاحظ أن التظاهرات الأخيرة التي دعت إليها المؤيدة للانفصال، عبأت الحشود في الشوارع للتنديد بسجن أعضاء في حكومة الإقليم المقالة، وفرض كفالة مالية على مكتب مجلس النواب المحلي بمن فيهم رئيسته التي أخضعت لمراقبة أمنية خشية هروبها،على غرار رئيس الحكومة بودجيمون الهارب إلى العاصمة البلجيكية، في وضعية قانونية غامضة حتى الآن: خرق القانون الأوروبي الذي يعارض تفتيت دول الاتحاد،لكنه يمنح "اللاجئ" حق التعبير عن الرأي السياسي. 

هناك تطور جديد طفا على الأحداث، يراه معلقون مؤشرا على انفراج بصرف النظر عن نتائج انتخابات الشهر المقبل.
ففيما يشبه النقد الذاتي، اعترف بعض زعماء الانفصال، وفي المقدمة بودجيمون، أنهم استسهلوا موقف الدولة الإسبانية واستنتجوا أن الشروط غير متوفرة لاستقلال الإقليم، في إشارة ضمنية إلى فشلهم في إقناع الخارج بالاعتراف الدبلوماسي بدولتهم ؛ بل إن رئيسة البرلمان المحلي "فوركاديل" وهي المتحمسة أكثر من غيرها، فاجأت القضاة بكون إعلان الاستقلال، خطوة رمزية، تم القيام به، بغاية الضغط على الدولة الإسبانية أثناء تفاوض مقبل. هذه "توبة" لا يصدقها أحد، ولن يكون لها، في الغالب،تأثير حاسم على المصوتين لتغيير موقفهم أثناءالاقتراع.

يمكن إقناع "الساسة" عبر تسويات ومفاوضات، لكن الأمر صعب حيال الحشود الذين صدقوا وهم "الجمهورية " رمز الرخاء والعيش الرغيد.

في هذا الصدد، استبق رئيس الوزراء راخوي نتائج انتخابات "كاتالونيا" بتأكيده معارضته إجراء انتخابات عامة سابقة لأوانها، في حال انتصار التيار الانفصالي في الإقليم الذي سيجد نفسه أمام خيارين: إما التفاوض السلمي مع الحكومة المركزية أو الاستعداد لتحمل تبعات إعادة تطبيق المادة الدستورية 155.التي تعني استمرار الأزمة والمواجهة وإخضاع الإقليم لوصاية مدريد.

والمؤكد أن كثيرين في الإقليم المتمرد، قد يعيدون النظر في مواقفهم ؛ فإذا جاءت نتائج الانتخابات مخالفة لما يتمناه الانفصاليون، فستشكل حكومة من الأحزاب المناهضة للانفصال وقد تطعم بالجناح البراغماتي من الوطنيين. ستتفاوض الحكومة المركزية معها تحت سقف المشروعية الدستورية، ما قد يؤدي إلى مراجعة قانون الحكم الذاتي في اتجاه الاستجابة إلى المطالب المعقولة، بروح من التوافق والتنازل المتبادل.

احتمال يبدو بعيد، إنما لا مفر منه، خاصة أذا اتفقت الأحزاب السياسية الكبرى على مراجعة الدستور وتدشين تجربة جديدة في اقتسام وتوزيع السلطات والصلاحيات، بعدل بين الحكومة الوطنية وكيانات الحكم المحلي المستقل.

حتى اللحظة، يمكن القول إن راخوي كسب الجولة الأولى ضد الانفصال، بالآليات الدستورية، لكن الأتي أصعب من الذي فات.