الواقع يشبه آلة موسيقية فيها ما لا يحصى من الأوتار .العزف دائما على وتر واحد ممل ومزعج ولا يفضي الى لحن في سلم موسيقى ليكون نشيدا . العزف على وتر الضحية وحده لا يكفي لصنع دولة ، حتى لو كان الوطن موجودا على ارض الواقع . لكن هذا ما يفعله بعض الكتاب الكرد و جيش المعلقين في البحث عن مخرج لأزمة فشل استفتاء الأنفصال عراقيا وعالميا . انه لأمر مشروع جدا ان يدافع الكردي عن قضيته بل غير الكردي ايضا .من يقف ضد مطامح الأكراد اما جاهل بتاريخهم او عنصري بعقل بدائي. في نصف القرن الأخير اصبح الأكراد شأن اقليمي وعالمي لأن قضيتهم مشروعة وتاريخها الحديث مأساوي قبل حلبجة والأنفال وبعدهما . لكن الماساة ، وسرد تفاصيلها غير كاف ايضا لصنع دولة . انها مثل حكاية السيرة الهلالية تسرد على نغم ربابة بوتر واحد . قوة المأساة في المسرح الأغريقي في الجوقة التي فيها يكمن ماصنعه تاريخ الاغريق اللاحق من مجد لحضارة انسانية ابتكرت الفلسفة والديمقراطية والحوار واسسالتفكير المنطقي . والعودة للأغريق هي عودة للتاريخ الحقيقي ،كما صاغها الفيلسوف الألماني هايدغر .

في مقالته "كردستان بين نقطة الشروع والأستفتاء " لا يمسك الكاتب كفاح محمود ثور التاريخ من قرنيه ، كما يجب ،بل من ذيله . هو لا يريد " الخوض في تفاصيل التاريخ و دهاليزه البيضاء والسوداء" وهي الأهم ، فالتاريخ تراكم لتفاصيله ،لكن الكاتب في نفس الوقت يأخذ عبارات مقتطعة من هنا وهناك ، ،ليبني بها بيت عنكبوت واهن .كأنه ينسى ان التاريخ " كلية بتفاصيله " بأحداثه الكبرى والصغرى . التفاصيل المتراكمة تصير حدثا ، هذا هو منطق الفيزياء والتاريخ معا . فهو ، التاريخ ، لاتصنعه الأحداث العنيفة ، السريعة ، اذ هو ليس نبات فصلي تهلكه حرارة الصيف او زمهرير الشتاء : انه شجرة معمرة تنمو ببطء وفق قوانين الطبيعة التي تشبه قوانين التاريخ . والا كيف تقاوم الزمن برياحه و ثلوجه ، بقيضه وزمهريره وهزاته الأرضية ؟الأمبراطوريات السريعة لا تضيف شيئا مهما مثل الوجبات السريعة ، والتاريخ ليس محل " وانت ماشي " . امبراطوريات الأسكندر المقدوني ونابليون وهتلر والأتحاد السوفيتي سقطت في رمشة عين وبقيت الدول الصغيرة ، المتجذرة ، التي حسبتها الأمبراطوريات دولا صغيرة ، تفاصيلا على خارطتها، ليس الا ؟ .

يصرح الكاتب بأن سايكس- بيكو اسست كيانات . كلا ، انها قسمت دولا، فيما بينها استعماريا ، كانت قائمة تاريخيا ولها شعوبها وحضاراتها وان كانت محتلة عثمانيا بعد مجد زال . فما قسم بين فرنسا وبريطانيا كان دولا عميقة الجذور في ارض التاريخ بل هي التي صنعت تاريخ الشرق وبعضا من تاريخ الغرب : مصر و سوريا والعراق ولبنان والبحرين واليمن ، دول مؤسسة للحضارة الأنسانية ومعروفة بحدودها التي نسجها مغزل التاريخ ،وهي ليست " كيانات " عابرة . رغم تقسيمها في ذلك الأتفاق الأستعماري ورغم ضعفها المؤقت اليوم ، في دورة من دورات التاريخ في صعوده ونزوله. 

ينظر الكاتب للحدث التاريخي كرغبة ذاتية ، قاصرة في كل الأحوال ، وليس كموضوع قائم بذاته . فالخيانة لمن اختلف معهم والنقاء لمن اتفق معهم . فهو يسمي الحزب الثاني ،جماهيريا و تاريخيا ، ، الأتحاد الوطني الكردستاني بحزب "زينة " متناسيا تاريخيته ونظريته السياسية المختلفة كليا عن رديفه الحزب الديمقراطي الكردستاني .لم يكن انفصال ابراهيم احمد وجلال الطالباني عن حزب الملا مصطفى بناءا على طلبات بغداد ، بقدر ماكان معالجة للمستجد في حينها في خضم القضية الكردية والذي لم تفهمه القيادة البرزانية القابعة في كلالة . في نفس الوقت يزكي الحزب الديمقراطي الذي استعان قادته بصدام حسين و حرسه الجمهوري لدحر اخوة اكراد من حزب آخر ويصور " فعلته " كمشي لبناء دولة الشراكة . مع من وعلى اجساد من ايها الكاتب ؟ هل نسينا الى هذا الحد ؟ ان نظام صدام أباد مئات الألوف من الأكراد وحطم الجغرافية والبيئة بحرثها ونسلها وهو الذي وضع على طريقة حزبه حلا للقضية الكردية شبيها بالحل النهائي النازي لهتلر : أي الأبادة .كأنك نسيت الأنفال وحلبجة بل حلبجات كردستان الكثيرة . هل نسيت الهجرة المليونية بعد حرب الخليج والأنتفاضة الكردية ضد صدام حسين . لقد اختفى الأفق من كثرة البشر المفجوعين ،الهاربين من رائحة التفاح / رائحة السلاح الكيمياوي ؟

نعلم جيدا كرم الحركات التحررية في اعتراف بعضها بالبعض الآخر ، فالحرية واحدة في كل مكان . لكن كاتب المقالة نسي او تناسى او انه يجهل فكتب في تصدير مقالته " ان الحركة الكردية اول حركة تحررية في القرن العشرين " نسي في خضم الأنانية القومية ، التي تجد جذورها في حاج عمران ، ان الحركات التحررية بدأت في امريكا اللاتينية بوحي من افكار والقيادة العملية للمعارك لشهيد التحرر الكوبي خوسييه مارتي ثم الفنزويلي سيمون بوليفار الذي حرر خمس من بلدان امريكا اللاتينية وماكان يدعى باسبانيا الجديدة . ليس بعيدا ، في الطرف الغربي من افريقيا العربية – الأمازيغية كانت ثورة عبد الكريم الخطابي تشعل نيرانها ضد الأحتلال الاسباني منذ بداية القرن حتى شبت النيران العام 1911 . الثورة الأكثر تقدمية في زمنها في شأن حقوق الرجل والمرأة ومفهوم الحرية التي قادها الأمازيغي الريفي الخطابي قبل ان تجهض في عام 1926 بأتحاد جيوش ثلاث دول ضدها وقرابة النصف مليون جندي اسباني وفرنسي وايطالي . ثورة عبد الكريم الخطابي التي وصفه تشي غيفارا " بأنه اول الملهمين للثورات التحررية في العالم " ليس بعيدا عنها، لحظة احتلال ليبيا في 1911 حيث اندلعت ثورة عمر المختار التحررية والتي استمرت أكثر من عشرين عاما قبل ان يؤسر قائدها العجوز ويرمي من طائرة ايطالية . على حدودها كان الجزائريون يقاتلون المحتل الفرنسي في اطول ثورة تحررية من ثورات التاريخ انتهت بأستقلال البلاد بعد 132 عاما من الأرهاب الدموي الفرنسي . هذا دون ان نذكر ثورات الطرف البعيد من آسيا ، حيث كان يقاتل الصينيون فيما عرف بحرب البوكسر ضد الوجود الأجنبي والعسكرية اليابانية الفاشية وضد الأستعمار الأنكليزي في وقت واحد . لكن عمى الألوان القومي انسى الكاتب ان شعوبا أخرى كانت تناضل حينذاك من اجل حريتها.نسي المصير المشترك للمناضلين من اجل الحرية .

على صعيد آخر فقد تجاهل الكاتب بأنتقائيته معتادة عند البعض من السياسيين ، ظروف وملابسات قضية الموصل في حينها والتي جعلتها من حصة بريطانيا بعد ان كانت من حصة فرنسا حسب اتفاق الوزيرين سايكس وبيكو .نسي انتصار الثورة البلشفية في روسيا والدور البريطاني للتصدي لها من اقرب نقطة اليها . نسي شركة البترول التركية التي قايضت حصتها 10 بالمائة لترك الموصل لبريطانيا . نسي ان طبقة الملاك في كردستان ، وهم من استفتوا ، فضلوا الأنتماء للعراق بغالبية مطلقة و رفضوا الأدعاءات التركية بأن الأكراد اقرب اليهم اصلا ولغة ودينا ، خصوصا ان تركيا اصبحت علمانية ولم يعد الدين فيها مصدرا للوحدة .نسي ان قادة الثورة الحفيدية طالبوا بالأنظمام للعراق شرط حكم ذاتي محدود يتعلق بالأدارة واللغة فقط . نسي ان رغبة المملكة العراقية ، بمسساندة من رؤساء القبائل الكردية السنية ، كانت البحث عن توازن طائفي ـ فالملك فيصل لم يكن راغبا في حكم عراق شيعي جنوبا و وسطا ، وكان الأكراد يميلون ، حينها ، للدين اكثر من ميلهم للقومية ، فالوعي القومي بدأ متأخرا في كردستان العراق . يكفي ان بكر صدقي الكردي هو من قمع ثورات الأكراد بقسوة نادرة في ثلاثينات القرن الماضي . نسي الأقليات العريقة في كردستان من مسيحيين وتركمان و آشوريين وايزيديين و يهود كانت تريد الأنظمام للعراق ولعله يعرف ان مدينة تلعفر التركمانية ، ليست بعيدة عن سنجار ،هي الوحيدة التي صوتت ضد الأستفتاء .اهمل الكاتب ان تركيا باعت الموصل ، كما باعت جمهورية جنوةالأيطالية جزيرة كورسيكا ، مقابل ثمن . 10 بالمائة من شركة نفط تركيا التي صار اسمها لا حقا شركة نفط العراق ولمدة 25 عاما .هذا هو ثمن كردستان في نظر الجمهورية التركية الكمالية .

ليس لدينا الا ان نستغرب من " تخريجات " الكاتب الغريبة التي تجعل من عرب العراق معادين للكرد وممتلئين حقدا وكراهية وان حرب ابادة جماعية تشنها الحكومة ضدهم ؟ ما اسهل الكلمات ايها الكاتب وكم هي خطيرة حينما تتحول الى حروب ابادة تحل محل حروب ابادة أخرى مبررة ؟ زن و دوزن الكلام فالحق كلمة والباطل كلمة .هل نسي كذلك ان الجحوش ، وليس " الجتة كما كتب ، فالكلمة الأخيرة كان يطلقها الجيش على الثوار الأكراد "ليسوا عربا بل هم من العشائر الكردية العريقة في كردستان والتي شكلت قطعاتهم اكثر من ضعف الجيش العراقي كله .الجحوش هم من شملوا بقانون العفو للأقليم بعد عام 2003،وكان ذلك ضروريا ، فليس من المعقول قتل او سجن مئات الألوف منهم بتهمة الخيانة والتعامل مع العدو ، خصوصا ان فيهم كفاءات بعضها اليوم في الخطين الأول والثاني من الحكومة الكردية . واذا كان مقياس الكاتب على هذا النحو فاي تسمية نطلق على قادة الأحزاب الكردية وهم من " تخابروا مع العدو " حسب الظروف المناخية لكردستان ؟

لايمكن قلب التاريخ على ظهره كما يفعل الكاتب . في هذا الخصوص فأن الجزء الأول من مقالته ينسفه الجزء الثاني من المقالة في تناقض غريب . فبعد النواح على الأطلال والشكوى يعود الكاتب ليعطي للقارئ اسباب فشل تجربة الأقليم الكردي اقتصاديا و سياسيا ودبلوماسيا ليصل الى نتائج مؤسفة. اذن اين هي مقومات الدولة المزمعة التي افشلها العرب وامريكاواوربا وايران و تركيا ؟ لكن الكاتب ، بجرأة لانظير لها ، يستثني استفتاء الانفصال ، الذي توج الفشل بتعبير المثل العراقي " اجه يكحلها عماها " ، ويعتبره نجاحا سياسيا لأنه عرف بالقضية الكردية ، وكأن القضية الكردية سرا كشف للملأ؟ لقد سيق الكثير من المواطنين الأكراد الى الأستفتاء بحماس لا شك فيه كأنهم سيشاهدون عرضا لكمال الأجسام وليس مستقبل شعب تعب من الجروح لتضاف له جروح جديدة هي الهزيمة والخيانة واليقظة من الحلم .

فشل الاستفتاء وانقلب السحر على الساحر ، كما يقال لأنه لم يات من عقلانية سياسية بل كان تحد اعمى، اناني ، عنتري ،ونوعا من خشبة خلاص للغريق مسعود البرزاني .العالم كله ،بعض الكرد واصدقاء الكرد وخصومهم وليس الأعداء ، حذروا من الأستفتاء بأخلاص الصديق والخصم الشريف واصروا انه ليس الوقت المناسب . دولة واحدة ايدته بحماس ولن نذكرها لكي لا نلوث مقالنا . دولة واحدة يناقش نصف العالم شرعيتها ايدته واعترفت بكردستان قبل ولادتها . اذا فشل استفتاء كاتولونيا الذي تم في بلد لا غبار على دستوره ولا على نظامه القضائي واحيلابطاله الى القضاء فذلك لأن العالم اليوم ليس قوميا اولا . ولأن الدول مقاطعات اقتصادية ولأن الدول المتقدمة تبحث عن الاتحادات وليس الأنفصالات من اجل استقرار السلم والتبادل الأقتصادي والثقافي بين الشعوب والدول . ولأنه خصوصا في منطقة الشرق الأوسط ليس في وقته في ظل ارتباك الخرائط وتعبئة الجيوش .

جزر الأنتيل البعيدة ، المارتنيك والغوادلوب وسان مارتان وغويانا ،خلف المحيط الأطلسي و التي تبعد آلاف الأميال عن فرنسا لا تريد الأنفصال لأنها غير متوفرة على مقومات اقتصادية للدولة . ذات الأمر لكاليدونيا الجديدة في المحيط الهادئ ومايوت في المحيط الهندي . فاللدولة شروطها التي ذكرتها في الجزء الثاني من مقالتك نفسها والتي لم تتوفر في اقليم كردستان العراق حتى اليوم . كما اسلفت فالأجزاء هي التي تصنع الكل و تفاصيل اقليم كردستان لا تلبي شروط دولة في هذا العقد من القرن 21 .على الأكراد الانتظار والحوار وتوحيد البيت الكردي و ترميم ماقدممن جدرانه والتحدث مع الجار بلغة الجار دون وعد او وعيد و دون الرغبة بأسقاط التاريخ بالضربة القاضية .العمل من اجل المصالح المتبادلة هي التي تحدد قوة الدول .لنترك التراجيدياللمسرح والدولة لخلق سعادة الشعوب .اعلم ان صوتي عند البعض مثل صوت راحيل في البرية .لكن عشقي لكردستان اقوى من الشتائم .