الكتابة عن الدين الإسلامي في الوقت الحاضر مهمة محفوفة بالمخاطر وعرضة للتكفير وربما تعريض النفس لخطر القتل والتصفية الجسدية بفعل فتوى يلقيها أحد مشايخ هذا الزمن ممن أعلنوا أنفسهم أهل للفتوى وهم لا يملكون أدنى مستوى مطلوب في فهم الفقه والشريعة.
يقف العالم اليوم على حافة مواجهة قد تكون دامية ومدمرة، بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، في حال نجح التيار السلفي الجهادي التكفيري الإرهابي المتشدد في بسط سيطرته على العالم الإسلامي والتحدث باسمه وفرض نفسه كممثل وحيد وشرعي له على العالم الخارجي، وهذا ما تسعى إليه التنظيمات الإسلاموية الإرهابية التكفيرية كالقاعدة وداعش ومثيلاتها. تعود جذور هذا المواجهة إلى زمن قديم يقدر بألف وخمسمائة سنة تقريباً، وهو عمر الدين الإسلامي. فالإسلام، منذ أن نشأ في مكة في أواخر القرن السادس وبدايات القرن السابع الميلادي، كانت لديه طموحات توسعية و يصبو لأن يكون الدين الأوحد على الأرض ويدعي أنه مرسل إلى الإنسانية جمعاء شاءت ذلك أم أبت. ففي الفترة المكية كان محمد ضعيفاً ومعزولاً وشبه وحيد إلا من قلة من المقربين منه، خاصة بعد أن توفي جده عبد المطلب وعمه أبو طالب وزوجته خديجة بن خويلد وهم أقوى المساندين والراعين له منذ طفولته حتى جهره بالدعوة المحمدية. أما أعمامه فكانوا، إما معادين شرسين له أو محايدين، وألتحق بعضهم بركبه متأخرً بعد فتح مكة كالعباس أما حمزة فلم يعش طويلاً بعد اعتناقه للإسلام فقد قتل في معركة أحد التي انهزم فيها المسلمون أمام جحافل مكة بقيادة أبو سفيان، ومهما كانت التعليلات والتبريرات الرسمية لهذه الهزيمة فإنها تعني أن المقاتلين من المسلمين كانوا يحاربون من أجل الغنائم أكثر مما هو دفاعاً عن الدين، وإن رب هذا الدين لم يحرك ساكناً ولم يفعل شيئاً أو يحقق معجزة لضمان انتصار دينه وهو الشعور الذي كان يدور في دواخل الكثير من المسلمين الذين لم يدخل الإيمان بعد في قلوبهم أي كان إسلامهم ظاهرياً ومن بينهم كانت هناك فئة سميت بالمنافقين كانت تقوم بدور الطابور الخامس من داخل الإسلام لتقويضه.عندما كان محمد في مكة في بداية الدعوة، كان يركز على التبشير وكسب الأنصار ويتحرك على نحو مسالم لأن توازن القوى لم يكن لصالحه لكن ذلك لا يعني أنه لم يفكر في تأسيس دولة إسلامية يقودها وفق شريعة الله فالسياسة هي الأداة الناجعة للحصول على السلطة والسيطرة على المجتمع، والدليل على ذلك أنه قام بالفعل في وضع الأسس والدعامات الرئيسية لإقامة نواة الدولة الإسلامية الثيوقراطية فور وصوله إلى المدينة وتشكيله لقوة مسلحة ضاربة تحت قيادته الدينية والدنيوية الميدانية حيث كان يشارك بنفسه في المعارك مع رجاله وفريقه المقرب منه. وكان يرسل الرسائل والرسائل إلى الملوك والأباطرة في زوايا الأرض يدعوهم للدين الجديد سلمياً في أول الأمر، وفيما بعد قرر مهاجمتهم عسكرياً عندما قوت شوكته، وكانت القوى العظمى في ذلك الوقت محصورة بالإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية. وكان الدين وحيثياته وتفاصيله وتطبيقاته وتشريعاته مرتبط ارتباطاً شديداً وعضوياً بشخص محمد وواسطة اتصاله بالسماء الملاك جبرائيل لإضفاء الشرعية على قراراته، رغم إنه كان يقول ويكرر على أنه لم يكن يبغي تأسيس دين جديد بل إصلاح وتجديد دين إبراهيم التوحيدي الحنيفي. وبعد أن انتصر محمد بفتح مكة وإخضاعها لسلطانه بدأ بالتخطيط لغزو الدول المحيطة بالجزيرة العربية كالعراق ومصر والشام، لكنه توفي قبل أن يتحقق حلمه في حياته، وقام بالمهمة على أكمل وجه الخلفاء الذين أعقبوه ولكن هل إسلام الخلفاء في عهد الخلافة الأولى هو نفسه إسلام محمد؟ احتك الدين الجديد بمعتقدات وأديان البلدان التي غزاها وتأثر بها ولم يحافظ على نقاوته الأولى، فلقد تشوه قبل أن ينهي ثورته النقدية والتاريخية وغدا مجرد مادة تاريخية قابلة للطعن وإعادة القراءة، وغابت ملامح وتفاصيل الإسلام الأصلي، إسلام محمد، حتى لحظة وفاته. فالعقيدة الإسلامية ما زالت تبحث عن نفسها في أقلام ونصوص وشروحات من كتب ويكتب عنها في الماضي والحاضر، فحتى كتابها التأسيسي القرآن بات موضوع جدل وتمحيص ومراجعة وتحليل وتفكيك. وصار الإسلام يتشكل حسب إيقاع اتصالاته ومواجهاته مع الآخرين وتلقيه للموجات الإرتدادية الناجمة عن الصدمات الثقافية والفكرية التي جابهها منذ مواجهاته العسكرية والفكرية مع الحضارات الهندية والبوذية والصينية الكنفوشيوسية والمسيحية البيزنطية واليهودية مما خلق في داخله نوع من الإنفصامية أو الشيزوفرينيا إذا جاز لنا القول. وبات من الضروري القيام بمقاربة جوهرية لإعادة تعريف وتحديد مقومات هذا الدين على ضوء متطلبات العصر الحديث وتفكيك خطابه الآيديولوجي والتاريخي. فالإسلام الأصلي مات بموت مؤسسه محمد وأستبدل بإسلام آخر هو إسلام الخلافة الأولى التي مثلها أربعة خلفاء متناقضين ومختلفين جذرياً عن بعضهم في كل شيء تقريباً يتعلق بهذا الدين، ومن ثم حدوث الانعطافة الجوهرية في صلب منظومة الخلافة التي حولتها إلى ملك وراثي دام لغاية مطلع القرن العشرين وإنتهاء الخلافة رسمياً على يد كمال أتاتورك. غدا العالم الإسلامي برمته يتيماً بموت الخلافة وكان لا بد من إعادة إحيائها أو تأسيس خلافة إسلامية جديدة في القرن الواحد والعشرين وبالتحديد في 10 حزيران عام 2014، حيث بدأت الدعوة لها منذ بدايات القرن العشرين وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين ونشوء ما عرف فيما بعد بالإسلام السياسي الحركي المعاصر.
كان نشوء مؤسسة الخلافة الأولى حالة شاذة في سياق القيادة الإسلامية في عهد محمد رغم تطرقه لها في بعض الأحاديث فمن غير المعقول أن لا يفكر مؤسس الدعوة في من سيخلفه في حالة وفاته أو قتله في معركة أو اغتياله إلا أن الموضوع حساس جداً ويكتسي أهمية لأن البحث فيه على نحو علني قد يقود إلى حدوث انشقاقات داخل الأمة الفتية، ولقد رأينا كيف أن الخليفة كان التجسيد العملي القيادي للدولة الإسلامية من عام 632 وهو سنة وفاة محمد إلى عام 1924 وهي سنة إنهاء الخلافة الإسلامية رسمياً وبالتالي فإن مؤسسة الخلافة كانت بمثابة الأداة التي تضمن استمرارية الرسالة القرآنية وتحمل مسؤولية إدارة الشؤون اليومية والدنيوية لعموم المسلمين، ومن مهام الخلافة أيضاً الاستمرار في نشر الإسلام والتبشير به وحمايته بمعنى أن الخليفة هو في آن واحد القائدة الدنيوي والعسكري للأمة والبديل للقائد الديني الأول وهو محمد وإن لم يمتلك نفس مؤهلاته وقدراته وخصائصه وعلى رأسها النبوة والاتصال بالسماء ومعرفة أسرار الدين وتفسير النصوص والعلم اللدني. فالخليفة هو التجسيد للسلطة الشرعية في الإسلام ومن هنا منبع الصعوبة والحساسية في اختيار شخص الخليفة وما يجب أن يمتلكه من صفات ومزايا وشروط خاصة وإن هذا المنصب مستحدث ولم يرد فيه نص قرآني صريح لذلك شهد الكثير من التطورات والاجتهادات خلال فترة الخلفاء الراشدين الأربعة الأوائل. فعندما توفي محمد انقسم المسلمون إلى فريقين الأول يدعي أن النبي لم يترك نصاً ولا وصية مكتوبة و لا أي توجيه صريح بخصوص من سيخلفه في موقعه القيادي على رأس هرم السلطة بينما يدعي الفريق الآخر أن محمد سبق وأن اختار ابن عمه وربيبه وصهره زوج ابنته المفضلة علي ابن ابي طالب وأعده لهذا المنصب ويستندون في ذلك إلى روايات وأحداث وأحاديث كثيرة. من هنا حدث أول وأخطر انشقاق في جسد الأمة الإسلامية في ذلك الوقت إثر قيام مجموعة من الصحابة بعملية انقلاب عسكري لتحييد الأنصار وعزل بني هاشم وهم أسرة النبي وآل بيته الذين يطالبون بحقهم في خلافته ممثلاً بشخص الإمام علي، وحصر موضوع خلافة محمد بعدد محدود من الصحابة المقربين، مما أحدث جرحاً ما يزال حياً ولم يلتئم بعد رغم مرور 1500 عام على حدث الانشقاق وانشطار المسلمين إلى سنة وشيعة. فأحداث السقيفة التي سنتحدث عنها باستفاضة لاحقاً فرضت آلية غريبة لاختيار الخليفة الأول لم تتكرر بعد ذلك ثم تم اختيار الخليفة الثاني بوصية ومرسوم قسري لانقاش فيه ولا اعتراض من الخليفة الأول إلى الخليفة الثاني بينما اختار الخليفة الثاني طريقة غريبة لخلافته باختيار ستة أشخاص من بين الصحابة على أن يعملوا مرغمين بقوة السيف على اختيار أحدهم كخليفة ثالث، ومصير من يعارض أو يتخلف القتل، أما الخليفة الرابع فلقد تم اختياره جماهيرياً من قبل العامة والخاصة من الصحابة في بيعة علنية جماهيرية ولكن في ظروف معقدة وغامضة وفوضى عارمة وثرة شعبية أطلقت عليها الأدبيات الإسلامية الفتنة الكبرى، ومع ذلك نقض البيعة عدد من الصحابة وتمردوا عليه، بل وأشهروا الحرب عليه بمساعد وتأليب زوجة النبي الشابة عائشة بنت أبي بكر الخليفة الأول لأنها تكره علياً وتحقد عليه إذ أنه أشار على النبي بتطليقها في حادثة الإفك الشهيرة. ترتب على ذلك أن مفهوم الخلافة فتح أفقاً جديداً ومفهوماً جديداً لم يكن معروفاً لدى العرب الذين لا يعرفون غير البنية والتركيبة القبلية وقواعدها السلطوية.ولم تكن الخلافة في بدايتها وراثية ولم تكن ملكية كذلك بل اختيارية وفق آليات متعددة الغرض منها تأمين تطبيق الشريعة والقوانين الدينية أي إن مهمتها هي تأمين السلطة التنفيذية وعدم الحيود عن مقولة: " لا حكم إلا لله" كما قال الخوارج في شعارهم حين انشقوا عن معسكر الخليفة الرابع علي ابن أبي طالب في أعقاب موافقته على التحكيم بينه وبين خصمه الأموي معاوية إبن أبي سفيان والي الشام القوي آنذاك. أما الخليفة المزعوم الحالي أبو بكر البغدادي فقد توج نفسه بنفسه ولم يختره أو ينتخبه أحد من عموم المسلمين في الأمة الإسلامية القائمة حالياً، إلا من قبل عصابته المحيطة به وبعض العصابات الإرهابية المسلحة الأخرى الخارجة عن القانون التي أعطته البيعة عن بعد.

[email protected]