عندما تصدمنا المرآه بالحقيقة المرة نبدو مشدوهين ، وكأنها ليست صورتنا ،وكأن هذه التضاريس الخشنة على وجوهنا بفعل عوامل التعرية هى لغيرنا ، وكأننا فوجئنا بانصرام ستة عقود والسابع ولى أوعلى وشك انفراط عقده عدا حبة أو حبتين نتشبث بهموكأنهم آخر زادنا ، وينفجر بركان التساؤلات الغاضبة :أين ذهبت هذه السنين ؟ومن سرقنا فى وضح النهار؟ وكيف هرمنا بهذه السرعة المذهلة ؟ وما هو الانجاز الخالد الذى حققناه ؟ وهاكم الحصيلة : أخاديد عميقة ،وجه متغضن ،جلد ضامر ،بقع سوداء ،وذكريات مجرد ذكريات وعضوية فخرية دائمة فى نادى القلوب الحزينة والنفوس الحزينه ، الحزينة على ماضاع ومضى ولن يعود ،الحزينة على المجهول القاتم القادم قدرا وقسرا ، الحزينة بعد أن تكاسلت القلوب والعقول والكلى والعيون،الحزينة بعد أن تآكلت المفاصل والذكريات، الحزينة بعد أن ضاعت الاحلام والامانى والايام والاسنان، الحزينة بعد أن تساقط الاحبة والخللان ، الحزينة بعدأن مات الامل فى مجرد رؤية لمحة أوتذوق نكهة أو الاحساس بلمسة أو سماع نغمة من أيام كنا نعتقد فى صبانا أنها مخلدة،وأن الزمن سيتوقف عندها لأجل خاطرنا عن السريان وكنا واهمين ، الحزينة بعد أن مات الامل فى صفح من ظلمناهم ورحلوا وفى الصفح عمن ظلمونا ورحلوا أيضا ،الحزينة بعد أن مات الامل فى نظرة ولو من بعيد على أماكن محيت معالمها ،ووجوه نشتاق لرؤياها ولم نعد نعرف حتى موقفها فى سجلات الاحياء ، الحزينة بعد أن مات الامل فى نصر حاسم فى المعركة الازلية مع الزمن نبتلع كل صباح حبات العقاقير السامة لعله يهدأ قليلا لكن هيهات.

وأزعم أن هذه المشاعر تعتمل فى قلوب كل أو جل (سبعينى) ولد فى منتصف القرن الماضى ،وأنا هنا أتحدث من المحروسة حيث وضعت الحرب الثانية أوزارها ولم يكد الناس يتنفسون الصعداء حتى ثار الضباط على الملك وانقلبت الاحوال رأسا على عقب ،وكمثال لازلت أتذكر آثار تحولات دراماتيكية طالت حياتنا ،حيث كان جدى وأبى يمتهنون ادارة الاقطاعيات الكبيرة الشاسعة لحساب ملاكها كبارالاعيان والباشوات، لكن تقلصت المساحات بقرارات التأميم وضمرت المداخيل وتدهورت الاحوال .

ولعل السماء رأفت بى وجنبتنى تجربة فقد شريك الحياة واكتفت بما خصنى من الاحزان حيث فقدت أمى فى نهاية العقد الاول وفقدت أبى فى نهاية العقد الثانى ،ولعلمى بقسوة التجربة اشفق على رفاق الرحلة ممن ابتلوا بهذه التجربة الاليمة مبكرا، وعانوا ألم الوحدة اللعين بعد ترك الوظائف والمناصب واستقلال الابناء وصخب الحياه ، وقد دعوت وأدعو الخالق كل يوم أن يجنبنى هذه الجرعة من الألم لأنى رأيت أثرها على وجوه أحبة كثيرين ، حيث يصبح الانسان كورقة نقد كبيرة نصفها مفقود.

رحلة طويلة خاضها هذا الجيل استهلكنا فيها ملك وخمسة رؤساء وحروب وثورات وتحولات جذرية فى كل مناحى الحياه تعليم وثقافة وفنون واجتماع واقتصاد .

فى التعليم نلت تعليما أساسيا معتبرا بكل المقاييس من معلمين رقيقى الاحوال ورقيقى الطباع نبلاء الخلق متمكنين من علمهم ورغم مرور سته عقود لازلت أذكر أسمائهم ومظهرهم ، وقد انهارت هذه المنظزمة فى منتصف السبعينات وأصبحت مستنقع آسن عفن تقذف الى الشوارع كل عام مئات آلاف الجهلة الاميين المتعصبين.

وفى الثقافة والفنون كانت مصر نقطة اشعاع حضارى على كل محيطها سينما ومسرح واذاعة وكتب وموسيقى ومعارض تصوير ونحت وعمارة فى طول البلاد وعرضها .وفى نفس التوقيت وعندما طفح الزيت فى شرق الاحمر وتم تديين كل شيئ وغزتنا ثقافة البوادى وتصحرت الواحة الزاهرة وزحفت عليها الرمال تكاد تخنقها ، وبسبب جذور حضارة مدفونة من آلاف السنين لازالت مصر تقاوم رغم الوهن الذى أصابها . 

فى الاجتماع انهارت قيم المصريين وودعوا قيم سكان الضفاف واستبدلوها بسلوكيات سكان الخيام وذهبت الالفة والتراحم والمشاركة والتعاطف والايثار والسماحة وحل محلها تعصب وفرز وتمييز وعنصرية وجرائم غريبة واستئساد على الضعيف وجشع ورشا واغتصاب .

أما عن الاقتصاد فقد جرت تحولات عميقة طالت كل الانشطة زراعة وصناعة وتجارة وانهارت المنظومة بالتدريج حتى وصلنا الى ما وصلنا اليه ولسنا فى حاجة للاستطراد.

ولولا مسحة ايمان وشريك حياه محب مخلص صبور وبسمة حفيد ورصيد ذكرىات الصبا الجميل المحفور فى عظام الجمجمة وموروث حضارى وجينى من ثقافة المقاومة والقتال والامل وحب الحياه ، لرفعنا راية الاستسلام مبكرا ، لكن اللقب السامى يحاصرنا، وكنت اتمنى لو كنت نبات أو جماد حتى اتجنب هذهالنعوت المقيتة :رجل مسن رجل عجوز ،لكننى أفتخر اننى استطعت العبور فى هذه البحار الهائجة ووصلت الى مشارف السبعين .

عيد اسطفانوس