قدم مونتسكيو 1689 – 1755م نظريته بشأن تأثير الطبيعة والمناخ على طبائع الشعوب وسماتهم الجسدية والفكرية، وذهب إلى أن سكان المناطق الجبلية الباردة أكثر نشاطا وحبا للاستطلاع والمغامرة وهذا يسود في شمال الكرة الأرضية في حين أن سكان البلدان الحارة والصحراوية تنعكس على طبيعتهم الكسولة وحبهم للتكاثر وضعفهم الفكري. 
ويستنكر الكثير من الناس هذا التعميم ويعتبرونه نوعا من الإجحاف والعنصرية البغيضة، وقد استوقفني مثلان صدقت فيهما نظرية مونتسكيو، وهما ميناء عيذاب على الحدود المصرية- السودانية وعكا على ساحل فلسطين. أما مدينة عكا فتقع في شمال فلسطين على ساحل البحر البيض المتوسط بين رأس الناقورة وجبل الكرمل، وكلا المدينتين كانتا مرفأ للحجيج والتجار إذ كان ميناء عيذاب نقطة انطلاق الحجاج من أفريقيا والأندلس إلى مكة، كما كان نقطة انطلاق الدعوة الإسلامية في عهد الخليفة أبي بكر وعمر ونقطة تجمع للرحالة من آسيا وأفريقيا وأوروبا، وكانت عكا تضج بالنشاط ليلا ونهارا، فالقوافل في حركة دائمة والسفن تصل وتفرغ بضائعها ثم تحمل بضائع غيرها، وجميعها تدفع مكوسا (ضرائب) للدولة الإسلامية ولم تكن هناك دولة فلسطين بل كانت فلسطين من ضمن ولاية سوريا في عهد الأمويين والسلاجقة، ومن بعدهم العثمانيين، اذا فقد كانت البلاد مفتوحة للمسافرين، ولا عجب إذن أن ينتج هذا الثراء الثقافي وكان في عكا مصنع ضخما للسفن شيد في عهد معاوية بن أبي سفيان، وكان هناك صناعات أخرى كالخزف والزجاج والمعادن كما تطور قطاع الفنادق لاستقبال الأعداد الكبيرة من القادمين، وهذا ساهم في إثراء الناس والدولة في آن واحد. ونظرا لهذا التنظيم الرائع، فقد كان الجميع مسالمين، وذلك لأن التجارة والصناعة تتطلب الحفاظ على الأمن بشكل صارم، كي يحافظ الناس على الحركة الدؤوبة بينهم وبين الشعوب الأخرى. في المقابل، فإن عيذاب ذات طبيعة صحراوية، يشح فيها الماء والمطر. وكان سكانها الأصليون من قبائل البجا، وهم أفارقة لا يدينون بديانة ويعملون في نشاطات كثيرة أهمها التعدين ونقل الحجاج، وقد أثروا من ممارسة نقل الحجيج من أفريقيا وأوروبا إلى مكة، ولكن هناك فيها قبائل عربية مثل قبيلتي جهينة وبني ربيع. وقد ازدهرت عيذاب ونشطت التجارة وكانت النشاطات الرئيسية هي نقل الحجيج وخدمتهم ومناجم المعادن والسفن التجارية مع الهند واليمن. وقد أورد بن جبير وصفا في رحلته لمينا عيذاب جاء فيه أن فيها لهيبا قارضا وتهب رياح السموم معفرة الوجوه ويمتاز القائمون على نقل الحجيج بالغلظة والجشع ولا يراعون حرمات الحجيج ويفتشونهم بحثا عن الدراهم، كما أن المراكب كانت صغيرة ويتكدس فيها الحجيج على بعضهم، وكثيرا ما يموتون. وعندما يصل التجار ينقلونهم على جمال في طرقات وعرة ويأخذون منهم أجرا باهظا. وقد أظهر المسح الجيولوجي أنه لم يكن هناك بيوت بل أكواخ قش، مما يعكس نمط الحياة السائد، كون معظم السكان كانوا بدوا يرتحلون وغير مستقرين، كما أن عدد المدفونين أكبر من عدد السكان وهذا يعني أن الوافدين إلى المنطقة من حجاج وتجار ومسافرين ربما كانوا يموتون ويدفنون هناك. كما أن القبائل كانت تتصارع على الزعامة وأبرز ذلك صراع قبيلتي عرب جهينة وربيعة في عام 1281 كما شاعت عمليات الاعتداء على القوافل مما أفقد المسافرين شعورهم بالأمن في عيذاب وتحولهم إلى مسار سيناء، وفي عام 1426 قام السلطان برسباي بإرسال حملة إلى عيذاب أدت إلى تخريب المدينة بالكامل. 
أما عن مدينة عكا، فقد أورد بن جبير وصفا رائعا لمدينة عكا من حيث الطبيعة والمناخ، وقال أن فيها من الخيرات والخضار والفواكه وفرا كبيرا كما أن الماء متوفر بغزارة، ويوجد فيها عدد كبير من النصارى واليهود يعيشون بسلام مع المسلمين، وقدم ابن جبير وصفا للحياة في عكا تستحق الإبراز والترجمة إلى لغات العالم، فقد وصف التسامح الديني في عكا وبأنه لا مثيل له في العالم، لدرجة أن مسجدا واحدا يستخدم كمسجد وكنيسة في آن واحد. وقال أن الفرنجة تعايشوا مع العرب وتعلموا لغتهم ولبسوا ملابسهم وتعلموا طهي طعامهم، ولم يعد هناك فرق بينهم. وقد أدى هذا التعايش إلى الثراء الحضاري والثقافي حتى أن بن جبير قال أن شوارع عكا مرصوفة بالرخام وهناك "مرفأ لكل مركب" ناهيك عن مئات الأصناف من البضائع التي تنقل يوميا، فصارت المدينة ملتقى الحضارات وفيها من كل ألوانها معلم حضاري. 
ومن خلال هذا الوصف، ربما يكون هناك بعض الحقيقة في نظرية مونتسكيو حول تأثير الطبيعة على السكان، إذ لماذا شعوب شمال الكرة الأرضية أذكى وأكثر ثراء وأقوى وأكثر حبا للاستطلاع والابتكار من بقية الشعوب؟