دخل السجن أسود الشعر وخرج وقد غزا الشيب رأسه، لكنه قدم للناس نموذج البطل الذي يجله العالم بأسره، دخل بيته متعبا، وطلب شربة ماء، لا عجب، فعشرون عاما وراء القضبان تنهك الجبال، لا بأس يا نبراس الهدى وأقوى درس تتعلمه الأجيال، فقد كنت مدفوعا بالحق والمبادئ التي تربيت عليها، فهؤلاء قوم سرقوا الأرض وشردوا الشعب، وكانوا يتنزهون مستمتعين بالطبيعة الغناء التي حصلوا عليها ظلما وعدوانا، وفوق هذا وذاك، استهزأوا بجندي أثناء أدائه للصلاة، وهذا موقف لا يحتمله إنسان عادي، فكيف بأحمد الذي رضع المروءة والنخوة في جبال إربد وسهولها. 

مرحى بك وقد بلغت الأربعين، وهو سن الحكمة والنضج، وهو الذي سيقول لك، لم يكن اندفاعك خطأً، بل لقد تصرفت بحكمة الشيوخ وانت في مقتبل العمر، هنيئا لمن رباك وعلمك الثبات على الحق، ولعل الشباب يغارون منك ويتمنون لو تتاح لهم الفرصة التي أتيحت لك، ووهبتك الخلود وجعلتك صفحة مشرقة في تاريخ الوطن. ولا يدين من يغضب للحق سوى بائع المبادئ والقيم العليا. 

خرجت ليلا والناس نيام لكن الزغاريد شقت العتم ووصلت قبة السماء، فقد عاد الفارس من رحلة الكفاح ونصرة الحق، وبقدر ما كان الفرح كبيرا، كان الخوف أكبر على صحته، فقد كان متعبا وشاحبا، والمستقبلون لا يصبرون كي يجعلوه يرتاح وينام قليلا، وعلا صوت يقول "يا إخوان دعوه يرتاح" فرد عليه أحدهم "يا أخي والله مشتاقين له" نعم، من يعرفه ومن لا يعرفه اشتاق له، ويود أن يجالسه، ويتأمل وجهه، فربما يكون في قسماته شيء غير عادي، ولن يروا سوى قسمات عربية وملامح أردنية، لكن الفرق مخبوء بين الضلوع، فهناك قلب نابض بالأخلاق العليا، وفي الرأس، فهناك عقل لا يقبل النفاق، ولا تبرير الظلم، ولا المراوغة والتلون. 

حللت أهلا ووطئت سهلا وسوف تنعم بحب الأهل والجيران، وسوف ينسيك دفء مشاعرهم عناء البعد وبرد السجون، وكيف لا يحبونك وأنت مثال للنخوة والشجاعة والمروءة والأخلاق الرفيعة وكل عشيرة تتمنى أن يخرج من بينها منارة بل كوكب تعتز بأن ينتسب لها وتعلن للجميع "هذا الرجل منا"، ليس لأنه شيخ عشيرة وثري وصاحب نفوذ، بل لنقاء نفسه وبياض قلبه وتضحيته في سبيل الحق والعدل.