مع حلول الصيف القادم، يكون قد إنهيت إثني عشر عاما في اليابان، وقد عشت هذه السنوات، بكل لحظة منها. فاللحظة لا تمر في اليابان بدون فكرة أو عمل أو إنتاجية، أو تأمل أو تعاطف أو تناغم أو مشاركة أو إبتسامه أو حزن ودمعة. وقد عشت جميع هذه اللحظات، ومن أكثر هذه اللحظات حزنا، كانت فقداني لشريكة حياتي، حياة عشناها معا، بآمالها، واحلامها، وإنتاجيتها، وآلامها، وسعادتها، وحزنها. وها إنذا اليوم أستعد لشد الرحال، لأودع البلد التي أحتضنتي في أصعب أيام حياتي، فتعلمت منها الكثير، علمتني كيف أحب بلدي، وأحترم قياداتي، وأقدر شعب وطني، وأنبهر بإنجازاته، لأنظر للصورة كاملة، واتجنب دقائق تحدياتها المملة، وأفتخر، بل واستمتعت بما حققته بلدي خلال نصف القرن الماضي، بعيدا عن محاضرات البكاء والنحيب، مع النظارة السوداء المتخصصة في النقد المدمن، والمزمن، والغير المنتج. فقد علمتني اليابان بأنه إذا كان هناك حقيقة، فهي حقيقة نسبية، وليست مطلقة، والأصح بانه لو تبحث عن الحقيقة فليس هناك حقيقة، بل جميعها نظريات قابلة للتطوير والإبداع. وإذا كان هناك نقد، فيجب أن يكون نقدا ذاتيا، فلو كل فرد منا ركز وقته في نقده الذاتي، وتجنب تضيع الوقت في نقد الآخرين، لصلح المجتمع، وحقق تناغمه، ونموه، وتطوره، وسعادته. ولم يبقى لي إلا أسابيع قليلة لتنطوي صفحة جميلة من كتاب حياتي، صفحة جمعتها بمفكرة سفير عربي في اليابان. وهنا ليسمح لي القارئ العزيز، أن أنتهز هذه الفرصة، لأتقدم بجزيل الشكر والإمتنان لقيادة وشعب بلدي، في الثقة التي أولني إياها. ولأبدها بالشكر لسيدي صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك مملكة البحرين المفدى، وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة، رئيس الوزراء الموقر، وسيدي صاحب السمو الملكي، الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد نائب القائد العام والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، الأمين.

كما أنتهز هذه الفرصة لأتقدم بالشكر لصحب المعالي الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، وزير الخارجية، وجميع المسئولين والموظفين بوزارة الخارجية بمملكة البحرين، لجهودهم الخيرة في تسهيل مهمتي، خلال هذه السنوات الطويلة. كما أنتهز هذه الفرصة لأشكر الأعلام العربي الذي أحتضني، وعلمني، وساعدني قدر الإمكان، لكي أتجنب الهفوات التقليدية في العمل الصحفي. وهنا أريد أن أخص بالشكر صحيفة إيلاف، وعميدها الأستاذ الفاضل عثمان العمير، عميد الصحافة الألكترونية في الشرق الأوسط، وصحيفة أخبار الخليج، والأستاذ أنور عبد الرحمن، الذي هو إستاذي منذ أكثر من أربعة عقود، ولن أنسى صحيفة الأهرام، والأستاذ سامي كمال، فجميع هؤلاء لهم الفضل في الأنتاج الأسبوعي لمقالات، من مفكرة سفير عربي في اليابان.

ويشرفني أن أتوج آخر عملي الدبلوماسي في اليابان، بإستقبال وتوديع سيدي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، والذي كانت زيارة جلالته لليابان، خطوة إستراتيجية مهمة في العمل العربي الأسيوي، لتحقيق إستراتيجية شراكة عربية أسيوية للعقود القادمة، وخاصة مع حلول عام 2050، حيث سيرتفع حجم الناتج الإجمالي المحلي لمجموع الاقتصاد الأسيوي إلى 50% من الناتج الإجمالي المحلي العالمي.

ولم يبقى من مفكرة سفير عربي في اليابان إلا مقالات قليلة، وإذا سمح لي عزيزي القارئ أن أختصر هذه التجربة في عدة مقالات كتبتها عام 2007، حيث بدأت كتابة هذه المفكرة، بعد وصولي اليابان بعام ونصف، وبعد أن هيئت نفسي لدراسة ما أمكن من تاريخ اليابان، وقيمه، وثقافته، واقتصاده، وتكنولوجيته. وسأبدأها بمقال زهرة الساكورا، والتي هي رمز الأمل والسعادة اليابانية، حيث تملأ هذه الأزهار في الربيع، جميع أشجار الشوارع والحدائق، لتحول أرض اليابان، لبساط أبيض وردي جميل. ولنبدأ بالمقال الأول، والذي كتبته في ربيع عام 2017، ولنحاول ان نقارن واقع اليوم، بوقائع عقد مضى من الزمن.

"احتفلت اليابان قيادة وشعبا، مع بداية الربيع في شهر أبريل الماضي من عام 2007، بتفتح أزهار السكورا، فامتلئت الأشجار ببساط مخملي من الورود البيضاء الناصعة، وأنتشر اليابانيون في مختلف الحدائق والحقول، كما دعوا الدبلوماسيين لاحتفالاتهم الرسمية والشعبية. وترافق ربيع هذا العام بأخبار سياسية مفرحة. فعلى المستوى البحريني كرر جلالة ملك مملكة البحرين الملك حمد بن عيسى آل خليفة كرمه المعهود، بالصفح عن مجموعة من الشباب المحكوم عليهم في قضايا عنف المسيرات. وعلى المستوى العربي عمل سيادة الرئيس المصري حسني مبارك، على وحدة الصف العربي الفلسطيني، لتحريك ملف السلام في الشرق الأوسط. وعلى المستوى الإسلامي، لفت نظر العالم انحناءة الرئيس ألأمريكي، باراك أوباما، لخادم الحرمين الشريفين، جلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، في مؤتمر مجموعة

الدول العشرين. وأما على المستوى الدولي، فقد بزغ أمل حوار أمريكي كوبي، بعد نصف قرن من مجابهة خطيرة، كان من الممكن أن تؤدي لحرب نووية مدمرة. والسؤال لعزيزي القارئ: ما الذي غير العالم فجأة من سياسة العصاة والجزرة، لبزوغ شمس السياسة الذكية؟ وكيف ستستفيد المعارضة السياسية في الشرق الأوسط من هذه السياسة، لتجدد فلسفتها وتطور أسلوب عملها؟

لقد اعتمدت سياسات الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، في تعاملها مع دول العالم، على هيمنة قوتها الاقتصادية وآلياتها العسكرية. وقد عانت شعوب العالم الثالث من هذه السياسة، والتي أدت لصراعات خطيرة وحروب مدمرة، وخاصة في آسيا والشرق الأوسط. وقد استمرت هذه السياسة الاستعمارية حتى اليوم في إسرائيل، والملاحظ من خلال تعاملها مع الفلسطينيين. وقد علق الصحفي الإسرائيلي تورن سيجي، بصحيفة هارتز، في الثلاثين من شهر ديسمبر لعام 2006 على ذلك، بالقول: "تبرر إسرائيل حروبها المتكررة بأنها تضرب الفلسطينيين لكي تعطيهم درسا. وهي النظرية التي لازمت المؤسسة الصهيونية منذ ولادتها، والتي تؤمن بأن الإسرائيليين مثل للتطور والتنوير، ومتقدمين بالمنطق والأخلاقيات، بينما العرب فهم بدائيون رعاع عنيفين، وأطفال جهلة، يجب تعليمهم وتدريسهم الحكمة بالعصاية والجزرة، كما يعامل الحمار. كما افترضت الحروب الإسرائيلية بأنها تدافع عن شعبها، ولا تعتدي على أحد، وكأنما لم يكن السبب في مجابهة غزة، تعرض القطاع لحصار طويل، قضى على فرص جيل كامل للحياة، حياة تستحق العيش."

وقد بدأ الرئيس باراك أوباما بعد نجاح حملته الانتخابية للتغير، بتغير "سياسة الحمير" بالتعامل بالجزرة والعصاة، لسياسة جديدة ذكية، تعتمد على احترام شعوب الدول الأخرى، والاعتراف بمصالحهم وحقوقهم في العيش بعدالة ومساواة، وقد أدت هذه السياسة الجديدة لتغير مفاجئ لنظرة العالم للولايات المتحدة. فقد حييت شعوب العالم الرئيس الأمريكي بحرارة وإعجاب، في كل رقعة زارها خلال الشهر الماضي. فطوال زيارته لأوروبا لحضور مؤتمر مجموعة العشرين، حيته الشعوب الأوروبية بحماس عجيب، كما أرسل خلال هذه الزيارة رسالة دبلوماسية ذكية، يؤكد فيها بأن الولايات المتحدة تريد أن تعمل مع "شركائها" لمعالجة التحديات العالمية، كما أعلن في البرلمان الأوربي بالقول: أتيت لأوروبا هذا الأسبوع لكي أجدد مشاركتنا، التي سنستمع فيها لكي نتعلم من أصدقائنا وحلفائنا. وأضاف بعد مقابلته برئيس الوزراء البريطاني جوردون براون بقوله: جئت إلى هنا لكي نطرح أرائنا، وأيضا أتيت إلى هنا لكي أستمع، لا لكي أحاضر. وأتفق بعد لقاءه بالرئيس الروسي مديفيدف على الرجوع لمحادثات خفض الأسلحة الإستراتيجية، في محاولة لأخلاء العالم من الأسلحة النووية، والذي أكده في زيارته لبراغ. كما أعلن في زيارته لتركيا عن سياسة الولايات المتحدة الجديدة نحو العالم الإسلامي، فقال: ليس هناك حرب بين الولايات المتحدة والإسلام، وفي الحقيقة مشاركتنا مع العالم الإسلامي مهمة، لموجهة الأفكار المتطرفة التي ترفضها جميع الأديان. ونحن نبحث على تعاون يجمع بين تبادل الاحترام والمصالح. وسنستمع إليكم باهتمام، لنضع جسور بنائه لسوء تفاهمنا، ونبحث على أرضية مشتركة للعمل المشترك، وسنحترم أرائكم حتى لو لم نتفق معها.

كما أعلن الرئيس أوباما عن رغبة بلاده في التعاون مع كوبا لحل المشاكل العالقة بينهما، حيث وافق على السماح للأمريكيين من أصول كوبية، لزيارات غير محدودة لكوبا، ونقل ما يشاءونه من الأموال لأهاليهم في تلك البلاد، وتمنى أحياء العلاقات الأمريكية الكوبية بعد تجميدها خلال الخمسة العقود الماضية. وقد رد الرئيس الكوبي راول كاسترو وخلال ساعات قليلة بعدها بالقول: "لقد أرسلنا رسالة للحكومة الأمريكية نقول فيها بأننا نرغب أن نناقش كل شيء: حقوق الإنسان، وحرية الصحافة، والسجناء السياسيين، بل كل شيء. كما يمكن أن نتحدث عن أشياء كثيرة أخرى، وقد نكون مخطئين، ونحن نعترف بذلك، فنحن بشر. وفي مؤتمر الدول الأميركية الذي جمع 34 دولة من القارة الأمريكية في مدينة بورت أوف سبين، تعهد الرئيس أوباما بأنه سيعمل بسياسية أمريكية جديدة، أكثر برغماتية وأقل رعانة، كما أكد في خطابه بالقول: لقد مرت علينا أوقات كنا غير مهتمين، وأوقات أخرى نفرض شروطنا، وأعاهدكم بأننا سنعمل لشراكة متساوية، ولن يكون هناك شريك كبير وشريك صغير في شراكتنا. وأنا هنا لكي أدشن صفحة جديدة لتعاوننا، والتي ستستمر خلال فترة إدارتي. كما قام قبل بدأ خطابه بمصافحة الرئيس الفنزيولي، هوجو شافاز، والذي رد عليه بالقول: أريد أن أكون صديقا لك. كما صرح للصحفيين بقوله: لقد تصافحنا كسادة محترمين، وقد كان من الواضح بأن ذلك سيتحقق، والرئيس أوباما رجل ذكي، ويختلف عن الرئيس السابق.

تلاحظ عزيزي القارئ كيف تحول العالم في عام 2007 بين ليلة وضحاها، من عالم حرب على الإرهاب، وعالم صراع الحضارات، وعالم معنا أو معهم، لعالم تعاون بين مجموعات الدول العشرين والدول الأخرى. وقد يتساءل البعض ما الذي غير العالم بهذه السرعة؟ هل هي العولمة وتحول العالم لقرية كونية صغيرة؟ أم الأزمة الأمنية والمالية والاقتصادية التي بينت مدى تشابك مصالح دول العالم وشعوبها؟ أم لذلك علاقة بزعمائها وحكوماتها ومعارضتها السياسية؟ وقد يتساءل البعض في زخم هذه الأحداث السريعة: أين المعارضة الإصلاحية الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط؟ وهل تحتاج لفلسفة إصلاحية جديدة، لكي تساعد شعوبها وحكوماتها، على التعامل مع تحديات العولمة المعقدة؟ وهل انتهى زمن المعارضة الثورية الدكتاتورية التقليدية، بعد أن فشل حكامها في معالجة تحديات مجتمعاتها، وكلفت دكتاتوريات صراعاتها وحروبها الكثير؟ وهل أصبحت الحاجة ماسة، بعد انتهاء مرحلة الاستعمار، لمعارضة تستطيع التعامل مع تحديات عصر العولمة، المالية والاقتصادية والبيئية والسكانية

والأمنية والإسكانية والتعليمية والصحية؟ وهل تحتاج هذه المعارضة لزعامات تنفيذية ذكية مستنيرة؟ وهل ستوجه شبابها للغرف من بحور العلم والمعرفة، واحترام الوقت وتقديسه، والالتزام بالنظام والقانون، والانضباط في السلوك، وتطوير مهارات حل المعضلات الحياتية، بكفاءة واقعية متزنة؟

لقد ناقش معضلة الزعامة والذكاء التنفيذي الكاتب جوستن منكس، المدير الإداري للمجموعة العالمية التنفيذية الذكية، في كتابه، ما الذي يجمع الزعماء العظام-الذكاء التنفيذي. يقول الكاتب في مقدمة كتابه: من المعروف بأن المواهب العظيمة تخلق المؤسسات المؤثرة، إن كانت هذه المؤسسات سياسية أو حكومية أو تجارية خاصة. وتحتاج هذه المؤسسات لنجاحها لخيرة من المواطنين كأعضائها وقياداتها. وقد بينت الأبحاث العلمية المختصة باختبارات الذكاء والمهارات الذهنية، بأن الذكاء التنفيذي هي مجموعة من المواهب تجتمع في بعض القيادات التنفيذية. وقد أكتشف الدكتور منكس من خلال مقابلة المئات من الزعامات التنفيذية، والتي ضمت ثلاثين من كبار مشاهير القيادات العالمية بأنه، كما يجمع عظماء علوم الرياضيات ماهرات خارقة في حل المعضلات الرياضية، يجمع أيضا عظماء الزعامات التنفيذية مهارات ذهنية معينة مهمة، للقيادة التنفيذية لمؤسساتها المختلفة. ويقسم الكاتب مسئولية الزعامة التنفيذية لثلاثة أجزاء: تحقيق المهمات، كفاءة العمل مع إلهام الآخرين، والاهتمام بالتقييم الشخصي. ويشمل كل جزء منها مهارات ذهنية محددة، تبين مدى كفاءة القدرات التنفيذية، كمهارة تحديد المعضلة، والتعرف على أولويات التعامل معها، وتقييم المعطيات المتوفرة والمعطيات الإضافية اللازمة معرفتها لإصدار قرارات صائبة. وهناك حاجة لتطوير مهارة وضع خطط العمل، وتفهم الرواء المختلفة، وتوقع الانفعالات العاطفية المضادة لتنفيذها.

كما نحتاج لمهارة التعرف على أخطائنا، وتشجيع الآخرين على نقدنا بإيجابية بناءة، وضبط سلوكنا الشخصي لنتحمل هذا النقد. وتلعب هذه المهارات الذهنية دورا رئيسيا في نجاح القيادات التنفيذية، ومع الأسف تركز المؤسسات في اختيار قياداتها على مظاهر الشخصية، وليس على مهاراتها الذهنية، كما تستفيد المنظمات السياسية من صفات زعاماتها الشخصية، لرفعة حرارة عواطف الشارع السياسي. كما أن ما يحققه الزعماء الناجحين ليس بسحر، بل هي انجازات تحققت بفضل ماهرات نوعية محددة، والتي يمكن قياسها وتعلمها. وبتفهم الذكاء التنفيذي، تستطيع القيادات والمؤسسات أن تطور كفاءاتها ومواهب أعضائها، لكي تحقق المهمات الصعبة. والسؤال لعزيزي القارئ: هل ستراجع المعارضة السياسية في الشرق الأوسط فلسفتها وطرق عملها لكي تتحول لمعارضة أصلاحية بناءة، ولتتزعمها قيادات تنفيذية ذكية، متمكنة من التعامل مع التحديات المعقدة لعالم العولمة الجديد؟ "

طوكيو، 7 أبريل عام 2007

سفير مملكة البحرين في اليابان