من يتابع حال أهلنا و إخواننا في أرض الشام و ما أصابهم من ظلم وحيف من القريب و البعيد طيلة السنوات الماضية يصاب بالأسى، فمسلسل التدمير و سفك الدماء و تشريد الآمنين لا ينتهي، فبعد مأساة حلب نقف اليوم عند مذبحة جديدة ترتكب في حق أطفال مدينة "خان شيخون"، و التي راح ضحيتها حوالي 100 شهيد و 400 إصابة عقب قصف المدينة بأسلحة كيماوية.

و بعد انكشاف معالم المجزرة توالت ردود الفعل، و تعاقبت التصريحات التي تدين هذا الهجوم و توجه أصابع الاتهام لطيران الأسد و روسيا بارتكاب المجزرة، غير أن روسيا نفت على لسان رئيسها مسؤوليتها عن المجزرة، و أن طائراتها لم تحلق في سماء المدينة يوم القصف... و قد تعودنا طوال السنين الماضية عن مثل هذه الاتهامات و عن نفي الضلوع في سفك دماء المدنيين، لكن المفجع في الأمر أن رئيس وزراء إسرائيل يخرج بتصريحات شديدة اللهجة ضد هذه الهجمات و يعبر عن أسفه و صدمته من هذه الهمجية، و نفس الشيء صرح به عدد من الساسة الصهاينة، بينما التزم أغلبية القادة العرب و المسلمين الصمت كعادتهم.

هذه المجزرة وغيرها جعلت من نظام بشار الأسد مجرم حرب، لكن ليس لوحده فالشركاء في تدمير سوريا كثر، فحتى الصمت الذي يجتاح الشارع العربي و الإسلامي هو مشاركة في سفك هذه الدماء، كلنا مسئولون أمام الله تعالى و أمام التاريخ عن هذه الدماء التي تسفك و عن هذه الحقوق التي تنتهك، وصلنا إلى أقصى درجات الحضيض و أقصى درجات النفاق، إني لا أحمل المسؤولية للحكام فقط، فهؤلاء ما كان لهم أن يستمروا في غيهم وعدوانهم لولا قبولنا الهوان و الذل، لا يعقل أن يعجز أكثر من 200 مليون عربي عن كنس هذه الأنظمة الفاسدة...وصدق القائل: " كما تكونوا يولى عليكم".

مشكلة سوريا لا تخص أهل سوريا فحسب، فهي نموذج مصغر لحال الأمة العربية والإسلامية، أمة تعاني العجز و التفكك وابتعاد عن الصراط القويم و إتباعها الباطل و الأهواء، فمرض الفرعونية السياسية ساد وتفشى في أوساط هذه الأمة التي للأسف لا تستحق اليوم وصف الله تعالى لها في كتابه العزيز إذ قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..} [آل عمران : 110]. فأفضلية هذه الأمة مقرونة بإتباعها للمعروف و نهيها عن المنكر قولا و فعلا، لكن أين نحن من ذلك فكل فئة تخون الأخرى، فالمعارضة السورية و حلفاءها من العرب و غيرهم يحملون المسؤولية لنظام بشار الأسد و إيران وحزب الله و هؤلاء يتهمون المعارضة وحلفاءها، بينما باقي أفراد الأمة يخيم عليهم الصمت... فالواقع كما قلت الكل مشارك في الجريمة بما فيه نحن أهل الإعلام، فأجندتنا أصبحت غير مستقلة تماما و مواقفنا تتبع لونا سياسيا أو إيديولوجيا معينا، بالرغم من أن الصحافة والإعلام هي نقل الحقيقة و قول الصدق دون تزييف، و توجيه الناس للصواب.

فالصواب اليوم في سوريا و اليمن وليبيا و العراق و اللائحة تشمل معظم بلدان العالم العربي...، هو تغليب صوت العقل و الرجوع إلى المنهج القويم فالدماء و الأعراض خط أحمر سواء كان القاتل من النظام أو المعارضة...دماء هؤلاء الأطفال و المدنيين في أعناقنا جميعا...إن الاستبداد و الفرعنة السياسية والانصياع لأجندات الغير ضيعت سوريا كما ضيعت غيرها من البلاد العربية المكلومة.

نكتب هذه الكلمات لنعلن براءتنا من هذه الدماء التي تسفك، وبعيدا عن أي أجندة سياسية، نقول بصدق لفائدة من هذه الأنظمة العربية الحاكمة فهي نموذج للطغيان و الانصياع للاجنبي و التفريط في حقوق البلاد والعباد، بل حتى بعض المعارضين لا يحملون بديلا موثوقا به، لكن من المؤكد أن حجم الظلم في سوريا و غيرها كبير و أن استمرار الوضع على هذا المنحى لا يحمل لنا جميعا أي خير.

لأجل ذلك، نتمنى من عقلاء هذه الأمة، و أكيد انه لازال في أمة محمد عليه الصلاة والسلام خير و لازال في الإنسانية خير، أن يشكلوا لجنة حكماء تتدخل لفض النزاعات في سوريا و اليمن و كل هذه المناطق التي تنزف دما و دمعا في عالمنا العربي المكلوم، لجنة على غرار اللجان التأسيسية لوضع الدساتير حيث تكون قراراتها ملزمة للجميع، لجنة تضم علماء الأمة و عقلاءها المشهود لهم بالاستقلالية والصلاح، و تعبر عن كل أطياف الأمة العربية والإسلامية و يتمثل بها حتي الجاليات الإسلامية في ربوع العالم بما في ذلك أهل الكتاب من العرب شركاء الوطن و التاريخ.

و تكون قرارات اللجنة ملزمة لكل الأطراف المتصارعة، ومن يرفض ما توصلت إليه هذه لجنة، تقوم عليه الحجة و يمكن إرجاعه لجادة الحق بالقوة إن اقتضى الأمر ذلك، مصداقا لقوله تعالى: و ان طائفتان من المؤمنين.

و في النهاية يبقى هذا مجرد اجتهاد يحتمل الخطأ و الصواب، لكن لا جدال في ضرورة حقن الدماء و معاقبة الجناة، وإن كنا نعلم يقينا أن العدالة الإلهية سوف تنصف هؤلاء المستضعفين، و لو بعد حين، و تقتص من كل هؤلاء الطغاة الذين أحرقوا الأخضر و اليابس ليستمروا في طغيانهم و غيهم...و الله غالب على أمره...
*إعلامي مغربي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي.