بعد زوال الدولة العثمانية، عانى الوطن العربي من الاستعمار الغربي على معظم أراضيه بدءا من أواخر القرن التاسع عشر، مرورا بالقرن العشرين الذي شهد إقامة دولة إسرائيل، وانتشار الخلافات بين أنظمة الحكم العربية التي وصلت في بعض الأحيان الى حد النزاع المسلح، وأدت الى اضعاف العرب بشكل عام. خرج العالم العربي من حقبة الاستعمار ضعيفا ومنهكا في بنيته المجتمعية وانظمته السياسية غير الديمقراطية.

وفي القرن الواحد والعشرين، ازدادت حالة عدم الاستقرار نتيجة القمع والفقر وكبت الحريات والفساد والتدخل الأجنبي. كل هذه العوامل أدت الى حالة من اليأس لدى المواطن العربي، نتج عنه ما أطلق عليه انتفاضات الربيع العربي.

بعد مرور ست سنوات من انتفاضات الربيع العربي، لم تبق دولة عربية واحدة انطلقت فيها الانتفاضات إلا وفقدت جزءا صغيرا او كبيرا من سيادتها على أراضيها وعلى قرارها السياسي لصالح دول أخرى مجاورة وغير مجاورة. بل إن بعض الدول العربية فقدت وجودها كدول وتحولت الى ساحات حروب لعصابات أهلية وخارجية، تحركها وتمولها دول عربية وغير عربية من وراء الحدود.

ها هي سوريا، ساحة صراع مفتوحة بين روسيا وإيران وتركيا من جهة، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية من جهة أخرى. وهذا الوضع نفسه ينطبق على كل من العراق وليبيا واليمن. اما في مصر وتونس، فالصراع في كلتيهما يدور بين الحكومات القائمة وعصابات محلية مسلحة مدعومة ماديا وعسكريا من نفس الجهات التي تمول الحروب في الدول المذكورة الأخرى.

من المفارقات العجيبة والغريبة انه في السابق، أي خلال الحقبة الاستعمارية ما بعد الحرب العالمية الاولى، كانت الدول الاستعمارية هي من تتحمل كلفة إنشاء القواعد العسكرية في البلدان المستعمرة،وتدفع مبالغ مالية سنوية كإيجار لحكومات الدول المقامة عليها هذه القواعد العسكرية، وكانت هذه القواعد تمثل انتقاصا لسيادة هذه الدول على اراضيها. اما في وقتنا الحالي، فالدول العربية هي من تطلب من الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا إقامة القواعد العسكرية على أراضيها وتتحمل كذلك كلفة إنشاءها بطريقة مباشرة او غير مباشرة.

والأدهى من ذلك، ان الولايات المتحدة وروسيا هما الآن من يكتبا مسودات دساتيرنا، كما حدث في العراق بعد احتلاله من قبل الولايات المتحدة في عام 2003م، وما يحدث حاليا في سوريا من قبل روسيا، حيث يضعون مواد في هذه الدساتير هي بمثابة القنابل الموقوتة، تنفجر في حالة محاولة تطبيقها وتهيئ الأجواء والظروف لتقسيم هذه الدول الى دويلات ومناطق نفوذ للدول الأجنبية، كالمادة 140 من الدستور العراقي، وما رشح مؤخرا أن مسودة الدستور السوري التي أعدتها روسيا تقترح "إزالة العبارات التي تشير الى عروبة سوريا، واستبدالها بمصطلحات تشدد على التنوع في المجتمع السوري".

عودة الاستعمار الى المنطقة العربية، يثير التساؤل حول نظرية "القابلية للاستعمار" التي طرحها في الخمسينيات من القرن المنصرم المفكر الجزائري "مالك بن نبي" في كتابه "شروط النهضة". الفكرة المركزية في هذه النظرية هي "ان الاستعمار نتيجة وليست سببا"، وذلك بعكس ما طرحه البعض في تفسير مشكلة التخلف في العالم العربي.

يتساءل "مالك بن نبي"، كيف استطاع الاستعمار التمكن من السيطرة على البلاد العربية؟ هل كانت الأمة العربية متقدمة حضاريا وتتوفر لديها مقومات الحضارة؟ ام ان الأمة العربية كانت في ظروف متخلفة وهي الأرضية التي ساعدت على السيطرة الاستعمارية؟ الرأي الثاني هو الأرجح عند "مالك بن نبي" لأن الاستعمار لا يستطيع السيطرة على أمة إلا إذا كانت ضعيفة ومفككة من جميع النواحي، وهذا هو حال الأمة العربية في الوقت الحاضر، حيث ان الأرض العربية أصبحت مستباحة من قبل بعض دول الجوار والدول الكبرى.

لا اعتقد ان جغرافية الوطن العربي ستبقى كما هي الآن، وأن حدود "سايكس بيكو" التي رسمت بعد الحرب العالمية الأولى سوف تتغير إن آجلا او عاجلا، واحتمال ولادة دول جديدة من رحم بعض الدول العربية أمرا واردا ولو بعد حين. الاستعمار الغربي الذي أُرغم على الرحيل من المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية، يعود هذه المرة بدعوة من أنظمة الحكم العربية القائمة تحت مسميات مختلفةكالتعاون والتنسيق العسكري، وغيره من المسميات الأخرى.