ويومها لم تكن هناك فتاوى قتل وجزّ رقاب بسبب مقال أو موقف، ففي صيف 1980، طلب إلي ناشر ومؤسس صحيفة (الخليج) التي تصدر في الشارقة تريم عمران (يرحمه الله) و"كنت حينها مديرا لمكتب الجريدة في العاصمة أبو ظبي"، أن أذهب لتقديم اعتذار للشيخ أحمد بن عبدالعزيز المبارك المستشار الشرعي لدولة الإمارات العربية المتحدة (أعلى منصب ديني)، وهو منصب كان عهد به له رئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان باني اتحاد دولة الإمارات، عن مقال لزميلنا المفكر العربي المصري أحمد الجمّال اعتبره البعض "تطاولاً على الإسلام".

وحين طلبت موعداً من مكتب الشيخ أحمد المبارك، يرحمه الله، تمنيت أن يكون اللقاء في منزل سماحة الشيخ، واستغرب المكتب الطلب، فقلت إن الأمر "شخصي وعائلي وعشائري"!

وفعلا تم تحديد الموعد في الثامنة مساء من ذلك اليوم، وحين ذهبت إلى منزل الشيخ في منطقة البطين/ أبو ظبي، وجدته واقفاً أمام المنزل بانتظاري، وهنا ارتجفت وارتعدت أوصالي: معقول هذه القامة العالية الكبيرة تنتظرني وأنا لا أكثر من صحفي صغير وصغير السن أيضاً على بوابة المنزل ؟، وحين صافحته بادر لمعانقتي قائلا: حياك، إبشر في اللي جاي فيه! ومسكني من يدي إلى مجلسه العامر. 

وبدأت حديثي معتذرا عن المقال الذي أثار حينها ضجة في كل الأوساط السياسية والثقافية والدينية، فقاطعني الشيخ بكل دماثته ورقته، قائلا، يا ولدي، أنا افترضت أن الأمر "عائلي عشائري"، فأنت ابن قبيلة عربية كبيرة، وافترضت أن سوءا حصل للقبيلة أو لك، لا سمح الله.

واستطرد: أما بالنسبة للمقال ولا أخفيك أنه سيء في بعض فقراته، لكنه يحمل رأي صاحبه، فأنا لا سلطة لي عليكم أهل القلم، وأنا رجل دين وفكر إسلامي ولا أتدخل في فكر أو موقف غيري، فصاحبكم الجمّال، غلط في شيء وأبدع في شيء، وأخونا تريم عمران هو سيد الموقف وهو ناشر وإعلامي كما أنه رئيس المجلس الوطني الاتحادي (البرلمان) فهل أنا يا أحمد المبارك أحرص على الإسلام منكم أنتم أبناء الجيل الجديد، يا ولدي يا ابن المجاليه: اشرب قهوتك وصار خير وسلّم على كل أهلك وناسك وعلى جماعتك في الجريدة التي نحب....
وانتهى الأمر عند هذا الحد، ولم يقام الحدّ الشرعي على أحمد الجمّال ولم تطلق عليه رصاصة حقد أو تجز رقبته بساطور، ولم تغلق (الخليج) وأقفل الملف إلى الأبد، ولا تزال صحيفة (الخليج) منبرا فكريا راقيا ولا تزال الإمارات تواصل شموخها وتقدمها وإنجازاتها!