تتعاظم الاعتراضات الدولية على عمليات الاعدام، التي تقوم بها بعض الدول او بعض الولايات في الولايات المتحدة الامريكية. ومبرر الاعتراض اخلاقي ومعقول، فتنفيذ حكم الاعدام يعني انهاء حياة شخص، انهاء نهائيا لا يمكن التراجع عنه. واذا كان هناك مجال للشك بمقدار واحد من الالف في الحكم، فهذا يعني ان هناك امل بعدم صحة الحكم. وان هناك امكانية لتأثر الحاكم او حتى المحلفين في بعض الدول بامر خارج اطار القضية، مما ادى بهم للحكم الخاطئ. ان الحياة هبة من الله او الطبيعة، وهي ليست هبة من اي شخص اخر، وهي هبة يتساوي فيها كل البشر. اي انهم منحوا حياتا. ولذا فلا يجوز ان يحرموا منها تحت اي مبرر كان. واذا كنا نؤيد ونقر بما يقول به المعترضون على حكم الاعدام، فاننا نواجه من ناحية اخرى معضلة اخلاقية، وهي حقوق الضحايا، الذين يبقون في الخاسر الوحيد، للحياة في الغالب. ولكن المعضلة الاكبر التي نواجهها هي ماذا عن مقترفي جرائم الابادة الجماعية، ومع سبق الاصرار والترصد، والتي ادت الى خلل ديموغراي فضيع، كانت من نتائجه اما ازالة مكون انساني له حضارة وثقافة مميزة من الوجود، او جعله اقلية هامشية، بقت تتعرض للتنكيل والاضطهاد والتهميش بسبب كونها اقلية، والمؤلم ان من يضطهدها وينكل بها ويهمشها، هم احفاد من كان سببا في تحولها الى اقلية.

ماهو الحكم الاخلاقي في هذه الحالة، وبماذا يمكن ان يجازي الجاني والضحية، وامام اي عدالة انسانية يمكن ان تقدم حيثيات القضية لكي تصدر قرارها فيها؟ هل المحكمة الجنائية الدولية كافية، وخصوصا ان إجراءاتها لا تطال الدول التي لم توقع ميثاقها، ام ان مجلس الامن هو المختص بتحقيق العدالة لها، ولكن ان ادركنا ان قرارات مجلس الامن هي حصيلة توافقات مصلحية سياسية للدول وخاصة المالكة لحق النقض الفيتو، فهل يمكن ان تتحقق العدالة يوما، وتتكرر حالة نهاية الثمانيات وتسعينيات القرن الماضي، حينما تحول مجلس الامن الى نوع من الوحدة في الرؤية؟ ام نتكل على الشعوب ذاتها وخاصة من اشترك اسلافها في اقتراف المذابح واقتلاع الناس وفرض المعتقدات، لكي تقوم بخطوات نحو انصاف الشعوب او المكونات التي كانت ضحايا لها؟ انها اسئلة تطرح بغرض المناقشة اكثر مما تطرح لتقديم الاجابات. لانني اعتقد اننا بتنا امام الحد المفترض ان نقوم بالاجابة عليها لكي نضع الاسس الراسخة لمجتمعات تريد ان تبني مستقبلها.

بعد ايام، قليلة وابتدأ من 25 نيسان سيتذكر الملايين من الارمن والاشوريون واليونان، المذبحة التي اقترفتها الدولة العثمانية بحقهم والتي ادت الى قتل الملايين منهم. وللعلم هذه ليست المذبحة الاولى ولكنها الاكثر توثيقا والاكثر عددا من الضحايا، فيقدر عدد الارمن القتلى بحوالي مليون ونصف المليون، والاشوريين بحوال سبعمائة وخمسون الف، واليونان بحوال مائة الف، ناهيك عن من غير دينه وانصهر في الشعوب المسلمة لانقاذ نفسه وعائلته وهذا العدد غير موثق. اقول هناك الكثير من المذابح المتتالية التي طالت هذه المكونات، وهناك اكثر من سبعون مذبحة طالت الازيدية، ولعل ما حدث قبل ثلاثة سنوات كان اخر المذابح الاربعة والسبعون. وماذا عن المندائيون الصابئة ممن لم يتم توثيق اي شئ عنهم، وان كان هناك ممن وثق ولكن الظاهر انه لم ينشر على نطاق واسع. وخلال السنوات الماضية تعرضوا للمزيد من القتل والترهيب وفرض الدين عليهم.

يا ترى كيف يمكن ان ننصف الضحايا؟ بعد كل هذه الممارسات والتي استمرت سنوات ان لم نقل قرون عدة. في استراليا والولايات المتحدة الامريكية وكندا، تم وضع قوانين خاصة للسكان الاصليين، او الذين لا يزالون يصرون على العيش على ما توارثوه من ثقافة اجدادهم، فلهم مناطقهم الخاصة وهم في الغالب معفون من الضرائب، ويتمتعون بكامل الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطن، ولهم الحق بالتعليم والتربية على ما تربوا عليه. ولكن هناك خلاف فقط بين السكان الاصليين في هذه المناطق، وهي هنا السحنة التي تفصح عن صاحبها والرغبة في الانغلاق على الذات في السكان الاصليين لهذه الدول، فيما ان السكان الاصليين ان جاز التعبير للامبراطوية العثمانية، لم يكونوا يختلفون بالسحنة عن اغلب السكان الاخرين، والامر الاخر ان هؤلاء السكان الاصليين كانوا الاساس في الانفتاح وتقبل التطورات العلمية والفكرية الواردة من العالم المتقدم. بل ان الغالبية وهنا هي الدينية اي الاسلامية، هي التي كانت تريد التقوقع وكانت خائفة من الانفتاح وتقبل ما تنتجه الحضارة الغربية، لاعتقادها ان ذلك يزعزع معتقداتها الدينية.

الضحايا، من الاشوريين والارمن واليونان والازيدية، لم يطالبوا، بان يتم معاقبة ورثة مقترفي الجرائم بحقهم، وهم هنا من العرب والترك والكورد، لان المطلب لا يتوافق مع نظرتهم للحياة اساسا، من هنا فان وقوف وارثي جرائم موقف الصمت والتناسي ومن ثم التجاوز على الضحايا، هو اعادة للجرائم بطرق اكثر بشاعة. فالنتائج الوخيمة العاقبة التي تلي ممارسة التهميش والظلم والتجاوز عل ابناء الضحايا، وبعد ان قل عددهم، قد تكون نتأجهأ خيار الهروب. قد يستسهل وارثي الجرائم الحل، ويعتبرونه خلاصا من مجموعة بشرية لا تتؤام مع ثقافة الاكثرية، ولذا فان خروجها وهروبها هو حل مرحب به. ويستحسن دفعهم اليه. الا ان الشعوب يمكن ان تصمت ولكنها ابدا لم تسكت سكوتا ابديا، ولا بد لها ان تجد البدائل، للحصول على حقوقها. ومن المفترض في قيادات تفكر في مستقبل شعوبها والمنطقة، ان لا توصل الامور الى الطرق المسدودة اعلاه، فهي ستكون وخيمة العاقبة على الجميع.

ان ظهور توجهات وتحركات فكرية وتنظيمية في الاكثريات، التي اقترف سلفها هذه الجرائم، لتصحيح المسار، يعني خلق حركة سلمية في المجتمع، توظف القضية لاشاعة التسامح وتقرير العدالة وسمو القانون والتساوي بين المواطنين والثقافات والاديان وبين الاجناس. مع ضمان الحقوق الكاملة لهذه المكونات التي يجب ان يدرك الجميع ان تحولت الى الاقليات بفعل الظلم والاضطهاد الممارس ضدها. فان العلاقات الاجتماعية يمكن ان تتطور باتجاه الانفتاح ونسيان الماضي واحقاده. والا فان ابقاء الغل والحقد مدفونا في النفوس جراء، التجاهل والنسيان المتعمد والنكران والتبرير. ان كان امرا سهلا، فان تجارب المنطقة ووصولها الى الاحتراب الداخلي جراء الكره التاريخي المتأتي من ما حدث في الماضي، جديرة بان تؤخذ كدروس للجميع