تشهد منطقة جنوب شرق أسيا و المحيط الهادي تصعيدا في الموقف بين الولايات المتحدة و حلفاِئها من جهة و بين كوريا الشمالية وحلفاؤها من جهة أخرى، فالرئس الأميركي أطلق تهديده بمعالجة مشكلة كوريا الشمالية، و أرسل حاملة طائراته "كارل فينسون" و عدد من السفن الحربية إلى شواطئ شبه الجزيرة الكورية، وقبل ذلك أرسل رسالة مشفرة إلى الصين و النظام الكوري الشمالي ، عبر قصف سوريا بنحو 59 صاروخ "توماهوك" ، فيما اعتبر بأنه استعراض للقوة و استعداد الإدارة الأمريكية الجديدة لاستعمال القوة الصلبة لطي الملفات العالقة و استعادة دور شرطي العالم.
مبدئيا، هذا التصعيد ليس بجديد فكلنا يتذكر عبارة "محور الشر" الذي أطلقها الرئيس الأمريكي بوش الابن، و ضم كل من كوريا الشمالية والعراق و إيران و سوريا، وشهدت الفترة السابقة لغزو العراق عام 2004 تجييشا لمنطقة جنوب شرق أسيا ، لكن سرعان ما تم حل الأزمة الكورية عن طريق التفاوض بينما تم اللجوء للقوة العسكرية لتدمير العراق و الذي تبث بأنه لم يكن يتوفر على أي أسلحة للدمار الشامل على خلاف كوريا الشمالية، التي تهدد باستعمال أسلحة غير تقليدية في مواجهة أي اعتداء عليها من قبل الولايات المتحدة.و موقفنا المبدئي هو رفض استعمال العنف كوسيلة لفض المنازعات، سواءا ضد الشعب العربي أو باقي شعوب العالم لان ديننا الحنيف يقوم على نبذ الظلم و العدوان بكل أشكاله مصداقا لقوله تعالى :( و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) (البقرة 190 ).
الواقع أن ما تعانيه منطقة الشرق الأوسط من تهديدات أمريكية هو نفس ما تعانيه منطقة جنوب شرق أسيا ، لكن هناك أوجه اختلاف عميقة ، فالولايات المتحدة تحاول في كلا المنطقتين خلق حالة من التوتر و الفزع، بغرض تحقيق مكاسب اقتصادية من البلدان المجاورة، و إذا كانت سياستها فعالة في استنزاف موارد و مقدرات منطقة الشرق الأوسط، نتيجة لضعف الأنظمة العربية و خضوعها التام للإرادة الأجنبية وعجزها المطلق عن تحقيق أي انجاز عسكري آو تنموي يحقق لها قدرا من الشرعية لدى شعوبها ، فإنه على العكس من ذلك فمنطقة جنوب شرق آسيا تشهد تصاعدا مثيرا لأنظمة سياسية فعالة و قادرة على مواجهة سياسات الابتزاز.
استطيع القول بأن المستهدف ليس كوريا الشمالية ، فعين "ترامب" على الصين واليابان وكوريا الجنوبية، صحيح أن كوريا الجنوبية و اليابان تتوفر على قواعد عسكرية أمريكية ، لكن كلا البلدين له ثقة في الحليف الصيني، فالمصالح الاقتصادية التي تمت تحث غطاء الثقافة الكونفوشية الواحدة خففت من حجم التوترات التي شهدتها المنطقة طيلة الفترة السابقة عن 1970.فالذي لا يعلمه الكثير من العرب خاصة ، أن صعود الصين اقتصاديا تم عبر بوابة المصالحة مع اليابان ، صحيح أن العلاقات بين البلدين عرف مد وجزر، لكن على العموم المصالح الاقتصادية بين البلدين جد مركبة.و السياسية الصينية الخارجية تقوم على مبدأ نبذ اللجوء للقوة المسلحة لا سيما في محيطها الحيوي.
فالصين لا ترغب في التواجد العسكري الأميركي في مجالها الحيوي، لذلك فهي تعمل بصمت على بناء قوة عسكرية رادعة و حجم الإنفاق العسكري يعرف نمو سنوي في الصين، كما أن عقيدة الجيش الصيني شهدت تحولا جذريا بعد 1982فلم يعد العدو الأساسي للصين اليابان أو الاتحاد السوفياتي -سابقا- أو الهند، فالعقيدة العسكرية الجديدة أصبحت تصب أساسا في اتجاه حماية ودعم التوسع الاقتصادي للصين، و من ضمن وسائل الردع التي تستغلها الصين تسليح نظام كوريا الشمالية.
ما يحدث اليوم في شبه الجزيرة الكورية هو حرب باردة بين الصين والولايات المتحدة فكلا الطرفين يريد أن يفرض مظلته على المنطقة، لكن بالنهاية لن تستطيع القوة العسكرية الأمريكية ضرب كوريا الشمالية فهي تعلم أن كوريا الشمالية تملك القدرة على الرد ، و أن الحليف الصيني لكوريا حليف من الدرجة الأولى ، لكن من المؤكد أن الصين لن تسمح لنظام "بيانغ بيونغ" بأن يتخذ مبادرة الهجوم الأول، لكن في حال ما هاجمت الولايات المتحدة أولا، فان الرد الكوري الشمالي سيكون عنيفا و مدروسا وخطوط الإمداد الصيني للجار المشاغب لن تتوقف على الأقل في السر.
لكن من المستبعد اللجوء للقوة أو حتى التوصل إلى تسوية تقضي بنزع أسلحة "بيانغ يونغ"، فالولايات المتحدة ستحصل على مكاسب اقتصادية خاصة من اليابان وكوريا الجنوبية ، و الصين بدورها لن تخرج خاسرة فهي تسعى لتوطيد قيادتها للحضارة الكنفوشية و إضعاف النفوذ الأمريكي بالمنطقة، فالصراع في الأساس اقتصادي و إن كان في الظاهر يأخذ شكلا عسكريا.
إن أهم درس يمكن استخلاصه من منطقة جنوب شرق آسيا هو أن التنمية تصنع جوارا أمنا، فالبلدان الآسيوية تربطها اليوم علاقات استثمار و تنمية جد معقدة ، فإمكانية اللجوء للقوة ضد جار قريب جد مستبعدة، و محاولة الولايات الأمريكية استفزاز المنطقة بتوظيف بعض الملفات الساخنة وفي مقدمتها التهديد الكوري الشمالي، سرعان ما يمكن التوصل إلى آليات لفض الخلاف بشكل سلمي و بأقل كلفة ممكنة لشعوب المنطقة.
فهذه المنطقة خلافا لعالمنا العربي استطاعت أن تستفيد من محاسن "عدوى التنمية"، فالتنمية في اليابان لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، سرعان ما انتقلت عدواها إلى كوريا الجنوبية وبلدان ما يعرف ب"النمور الأسيوية" مع نهاية ستينات القرن الماضي، وامتدت اليوم للصين والهند و بلدان أخرى فالتعاون الاقتصادي بين البلدان قادر على إزاحة خلافات الماضي.لذلك تظل المنطقة العربية هي مسرح استعراض القوة الأجنبية و موردا لا ينضب للابتزاز الأمريكي و الغربي، فالتحدي ليس فقط بناء القوة العسكرية فهي مطلوبة ، و لكن بناء نظم حكم رشيدة تعبر عن إرادة شعوبها يعد أهم مدخل للانتقال بالمنطقة من دائرة المفعول به إلى الفاعل في الساحة الدولية.و الله غالب على أمره.
*إعلامي مغربي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي.