يلاحظ المتابع لسياسات الإدارة الأمريكية أن هناك تحولات "جذرية" قد طرأت على الخطاب السياسي للرئيس دونالد ترامب حيال العديد من القضايا والملفات، وفي مقدمتها حلف شمال الأطلسي (ناتو)، حيث تراجع الرئيس ترامب عن وصف الحلف بالذي عفا عليه الزمن، وأكد مؤخراً أنه "لم يعد أبدا من الكيانات التي عفا عليها الزمن".

التصريح الأخير بدد القلق الذي ساد أوساط حلف الأطلسي منذ تولي ترامب السلطة في يناير الماضي، ويبدو ان زيارة الأمين العام للحلف ينس ستولتنبيرغ إلى واشنطن مؤخراً قد استهدفت التعرف عن قرب على توجهات الرئيس ترامب حيال الحلف.

اللافت أن ترامب الذي لم يكن راضياً مطلقاً عن دور الحلف وأهدافه، لدرجة أنه تساءل عن جدوى بقاءه معتبراً أن الولايات المتحدة تقوم بدفع حصة مبالغ فيها من مصاريف الحلف مقارنة مع ما تدفعه بقية الدول الأعضاء، ولكنه عاد ليؤكد أن الحلف اكتسب أهمية كبرى بعد تنامي خطر "الإرهاب"، مطالبا التحالف ببذل المزيد من الجهد في مجال "مكافحة الإرهاب الدولي، ودعم الشركاء في العراق وأفغانستان".

يعجبني في الرئيس ترامب أنه يتنقل بين المواقف بسهولة فريدة، ولا يتحسس من تغيير موقفه وآرائه حيال الدول والموضوعات والقضايا، بل لا يأبه بحدوث تباينات بين موقفه ومواقف رموز إدارته ومستشاريه، بما يؤكد ما سبق أن طرحته في مقال سابق أن الإدارة الأمريكية تعتمد استراتيجية الإرباك في التعامل مع أكثر الملفات حساسية وحيوية في السياسة الخارجية الأمريكية.

هذه الاستراتيجية تجعل من الصعب على الآخرين بناء توقعات مسبقة حول ردود أفعال الإدارة الأمريكية انطلاقاً

من الخبرات والتجارب السابقة، الأمر الذي يعزز قدرة الردع الأمريكية، لاسيما بعد الضربة الصاروخية التي وجهتها الولايات المتحدة لقاعدة "الشعيرات" السورية، والتي اثبتت اختلاف إدارة ترامب عن سلفه الرئيس السابق أوباما، وأكدت أن ترامب لا يتردد في اتخاذ قرارات عسكرية.

علاوة على تقارير الأجهزة الأمنية الأمريكية المتخصصة، التي تدرك دور الحلف وقيمته في الاستراتيجيات الكونية الأمريكية، فإن من أكثر الأمور التي أسهمت في تغيير موقف ترامب حيال حلف الأطلسي، برأيي، انه أدرك أهمية الحصول على دعم شركاء الأطلسي في القرارات العسكرية التي يمكن أن يتخذها، حيث كان واضحاً امتنان ترامب لدعم الحلف للضربة الصاروخية في سوريا، إذ قدم ترامب الشكر لأعضاء حلف شمال الأطلسي لدعمهم قراره بشأن الضربة الصاروخية.

حدث تحول آخر نسبي أيضاً في موقف الرئيس ترامب حيال روسيا، فبعد توقعات كبيرة بـ "شهر عسل" قد يمتد لأربعة سنوات بين الكرملين والبيت الأبيض، لم تكد تمر أسابيع قلائل على تولي ترامب السلطة رسمياً، حتى وصف العلاقات مع روسيا بأنها "في أدنى مستوياتها على الإطلاق"، بعد رفض موسكو التخلي عن دعمها لبشار الأسد في أعقاب الهجوم الواضح بالأسلحة الكيماوية.

أدرك أن ترامب قد التقط خيط تباين المصالح مع الرئيس بوتين ليرسل رسالة قوية لمنتقديه والمشككين في علاقته بروسيا بأن "أمريكا أولاً"، وهذا الأمر غير بعيد عن أذهان المراقبين، ولكن لا يمكن أيضاً إنكار الفرضية القائلة بان رؤية ترامب حيال روسيا قد طرأ عليها تغيراً مماثلاً لما حدث بالنسبة لملف حلف الأطلسي، إثر الاطلاع على تقارير أمنية واستخباراتية بصفته رئيس الولايات المتحدة، وهذا امر لم يكن متاحاً له خلال فترة المنافسة الانتخابية وقبلها.

هذه الشواهد تنبىء بإمكانية حدوث مزيد من التحولات والتغيرات في مواقف ترامب حيال ملفات وقضايا أخرى،

لاسيما أنه لا يجد غضاضة في الانتقال من مربع لآخر، بل ويدافع عن موقفه الجديد بنفس قدر حماسته لموقفه السابق. وقد يكون من ضمن التحولات المتوقعة موقف الرئيس ترامب حيال إيران تحديداً، فقد شهدت لهجة الإدارة الأمريكية حيال الاتفاق النووي الموقع مع إيران كثيراً من التراجع بل يكاد يكون هذا الملف قد اختفى تماماً من قائمة أولويات البيت الأبيض في الوقت الراهن، لاسيما منذ تصريح مسؤول كبير بالإدارة لوكالات الأنباء بأن الولايات المتحدة ملتزمة بالاتفاق النووي طالما أنه لم يطرأ جديد في هذا الشأن، تصريح ملتبس ولو تمت قراءته في ضوء ما يحدث من تحولات حيال ملفات أخرى يمكن الاستنتاج بأن ثمة أمراً جديداً قد طرأ ولا تريد واشنطن إعلانه حرصاً على عدم إغضاب حلفائها في دول مجلس التعاون، وهذا وارد بنسبة كبيرة!!

بالنسبة لإيران علينا أن ننتظر قليلاً للتعرف إلى أجندة البيت الأبيض حيالها بدقة، لاسيما أن الاهتمام الأمريكي منصب الآن بدرجة كبيرة على التهديد الكوري الشمالي، وبعده يمكن ان تتكشف أمور كثيرة!!

أما بالنسبة للعلاقات الأمريكية ـ الروسية، فإن مثل هذه التباينات والتحولات توفر لنا درساً مهماً في العلاقات الدولية، أنه ليس هناك "شخصنة" فالعلاقات قائمة بل نابعة من مصالح دول، وصحيح أن العامل الشخصي، أو مايعرف بكيمياء العلاقات الإنسانية له بعض الأثر في تعزيزها أو تقويضها، ولكن الأساس يبقي متمركزاً حول مصالح الدول وليس الأشخاص، وهذا الامر نفتقده بشدة في عالمنا العربي، وفي الكثير من دوله، التي تضحي بمصالحها الاستراتيجية من أجل حسابات أشخاص، قد يكونون في موقع السلطة العليا.

التاريخ العربي القريب والبعيد، يمتلئ بقصص وحكايات كثيرة حول دور العلاقات الشخصية فيما آلت إليه الأوضاع في منطقتنا، فالصراعات بين بعض القادة والزعماء والحساسيات القائمة بينهم طالما تسببت في ضياع

الكثير من الفرص وتدمير كل أمل في تحقيق الأفضل للشعوب!