كثيرا مانسمع من يقول اننا نحتاج دولة مدنية ونظام حكم قائم على المدنيّة ؛ وكأن الهيكل السياسي والسلطات الثلاث ومؤسسات الدولة هي من تقرر كيفية ان تكون الاعتبارات المدنية هي السائدة ، لكن الحقيقة الجليّة ان المجتمع الواعي التوّاق الى النهوض ؛ بيدهِ وحده انيختار المسلك المدني وعليه فالأصح ان يقال بان المجتمع المدني هو المنتج لدولة تتخذ من المبادئ والأفكار المدنية مسارا ودليلا وخططَ عملٍكما يريده هذا المجتمع .

فالدولة تصنعها الشعوب وتشكّلها كيفما يريد مواطنوها وفقا لمستوى رقيّ العقل الشعبي ومن الغرابة ان يقوم مجتمع اعتاد على الدكتاتورية ونظام الحكم الواحد ان يحرق المراحل ويطالب في غمضة عين بمجتمع مدني حرّ قائم على اعتبار المواطنة اساسا والسواسيةبناءً الاّ بعد ان يتمّ تأهيله وتنويره وكنس كل مخلفات الجهل ونفايات الدكتاتورية والعسكريتاريا وحكم رجال الدين او القبيلة او زعماء الطوائف وما شاكل ذلك ويتم ذلك اما بثورة ثقافية عامة شاملة لمجتمعٍ محدد يشكلّ ساكنوه دولة في بقعة من الارض لها حدودها وتذويب القناعات القديمة والجمود وزحزحة الصدأ الكامن في العقل السالف والسعي الى صقله واظهار لمعانه وبريقه ليتقبل اضواء المدنية وشروقها .

ومن يرتضِ العيش تحت خيام متهرئة ويعتاد الحكومات ذات النظم الواحدة ويستكين العبودية للدكتاتورية والإذلال لما تمليه عليه الانظمةالحاكمة المتسلطة ويقبّل الايدي التي تخنقه سينفر حتما من اية رياح جديدة منعشة ، فلو امطرت السماء حرية وبرقت بأضواء الديمقراطية ورعدت بأصوات المدنية ؛ سيحمل كل واحد مظلته احتماءً منها ويغلق مسمعيه بكرةٍ من طين واخرى من عجين حتى لاتصله نغماتها لانهببساطة اعتاد النشاز وطرب لوقع سياط السلطة على ظهره واستأنس ان يحيا في الظلمات الحالكة ولم تعد تستهويه شمس الصحو ومصابيح التنوير لسبب بسيط جدا وهو ان الجهل والتجهيل هو من يجعل الانسان مدجّنا قانعا بالظلامات وقسوة الحياة في ظل الاضطهاد وليس من المعقول ان يرضى مواطن عاقل ان يعيش تحت وطأة وطنٍ اشبه بسجن كبير .

ولا غرابة ان نرى الان في مجتمع كالعراق او ليبيا -- مثالا لاحصرا -- لازالا يعانيان بقاء رثاثة الدكتاتوريات السالفة وماتنتجه بعد سقوطها من فوضى عارمة تتمثل في شيوع المليشيات وبروز أمراء الحروب والاستهانة بالنظم القانونية وانعدام الأمن وتكاثر الجرائم المنظمة ( سرقات بكل اشكالها واغتيالات وعمليات خطف ومكائد جمّة ) وترى الملأ المتعب في صداع دائم مشوش الذهن يتشبث بأية طريقة للانقاذمهما كانت رخوة كالتعلق بالقبلية والإمساك بالطائفية منجاة من الهلاك مع انهما هما الهلاك بعينه ويصل به اليأس الى التوسلّ بالخرافات وبالاخيلة الاثنية كي تنقذه ( الادعية بطلب النجاة وزيارة القبور واستنجاد المنقذ المنتظر ) .

محال ان يقوم شعب مدحور ومعنّى ومحاط بالجهل والتخاريف الدينية ومقاد من قبل زعماء طوائف وقبائل ان ينتج مجتمعا مدنيا بين ليلة وضحاها ، فلسنا في عصر المعجزات والخوارق التي نسمع بها ولا نراها لاقديما ولا حديثا ويبقى العقل السليم الراجح وحده هو المعجز والمبدع والصانع والدليل الذي يختار لك الطريق ويدّلك على التخطّي اما مصيبا او معيبا .

فتلك المبادئ والافكار التي تتمثل بالمساواة بين الناس وما نسميه دولة المواطنة القائمة على السواسية بلا اي اعتبارات عرقية او دينية اولونية ترافقها مبدأ تكافؤ الفرص وفسح المجال للجميع بالخلق والابتكار دون ان تتدخل نهائيا بنوازعه الدينية واختياراته العقائدية وانتهاك قناعاته الدينية او التحرش بسلوكه وعباداته وطقوسه ، فالمواطن في هذا المجتمع له كل الحق في زيارة الكنيسة او المسجد او اي معبد يراه ملاذا للشعور بالسعادة والطمأنينة النفسية ليرضي قناعاته الدينية ، بل ان السلوك العقائدي عند الانسان محل احترام وتقدير ويمكن انيكون عاملا في تنقية الاخلاق وانضاج طاقة الانسان وتحفيزه نحو الابتكار وتحقيق المنجزات لمجتمعه .

اما مايروّج من قبل سعاة الفكر الديني او القومي بان التوجه المدني العلماني يشهر سيفه امام العقائد الدينية فهذه الاتهامات لم تعد تنطلي على احد وقد ادركها العاقل والاقل عقلا بل ان عامة الناس عرفوا خطل هذه الدعوى والاتهامات ذات المغزى العدائي المغرض فالعلمانية تدافع عن كل العقائد دون ان تتبناها وفقا لمبدأ حرية الانسان في التديّن مثلما هو حرّ ايضا في التحرر من الاعتقاد الديني واذا كان الدين ينخره الداعون اليه ويسيئون الى مثله العليا من خلال ممارساتهم النفعية في الكسب والحظوة وإضفاء مسحات العنف والنرجسية والفوقية عليه تبعا لأهوائهم وانهم يستخدمون العقيدة ولا يخدمونها فهم اول من يسيء للدين ويثلم نسقه المتوازن ويعيث ظلاما ببعض اشراقاته اللامعة في تهذيب نفس الانسان وتقويم اخلاقه فان العلمانية تتجه الى عكس ما يمارسه هؤلاء الدعاة والمزيفون وتبدي احتراما وتقديرا للمثل العليا السامية الراسخة في الدين دون ان تزجّه في معمعان السياسة ومعتركها ومراوغتها .

أكاد أوقن ان في بلادنا الاسلامية والعربية لانحظى بشعوب تتقبل الفكر الجديد فما زال في داخلنا حنين الى ديكتاتور ومتسلط وحاكم نظنّه منقذا بشيرا بالخير ونعمى عن ادراك قوتنا بان الخير فينا ونحن من نستطيع ترسيخه لو اتيحت للشعب الارادة والقوة والمنعة واتقدت فينا الجرأة ان نهدم ثوابتنا وقناعاتنا القديمة التي لم تعد تناسب ما نعيشه اليوم من تطور واضح في انظمة الحكم القائمة على خيارات الشعوب لا خيارات الحاكم القوي المتسلط .

ولنا في تجربة تركيا الحديثة خير مثال حيث انتصر السلطان العثماني اردوغان وهاهو الان بدأ في هدم صرح العلمانية الذي شيّده " اتاتورك " بعد استفتاء ديمقراطي مارسته نسبة كبيرة من الشعب التركي المسلم ، فكم هي مسكينة مطية الديمقراطية حينما يعتلي ظهرها العابث وغير العابث ليوصلها الى ما لاتريد ، ولا اغالي لو جزمنا وقلنا ان ملامح النظام القائم على ما بناه " اتاتورك " ستختفي تدريجيا ومن يدري ان السليط اردوغان سيلبس عمامة الخلافة ليكون الخليفة السابع والثلاثين بعد آبائه واجداده الاوَل .

هذا ماتفعله الشعوب المظللة الطائعة لما يقول زعماؤها النرجسيون حينما تريد دكتاتورا على العكس تماما مما تفعله الشعوب الواعية الراقية حينما تريد ان تطمر الدكتاتورية الى الابد لترسخ نظاما مدنيا ديمقراطيا .

ولله في خيارات الشعوب وأمزجتها ومستوى عقلها شؤون وشجون وربما جنون وعودة غير حميدة الى سالف الازمان والقرون.

[email protected]