كثيرا ما أسعى وحدي وأزور إحدى رياض الأطفال القريبة من بيتي لأجلب حفيدي حينما يتأخر أبواه في الدوام الرسمي وعند اشتداد الخناق المروري -- وما أكثره عندنا -- فأرى في باحة الروضة الواسعة التي يتعلّم فيها حفيدي الصغير معلمةً أمسكت شفتاها صفّارة منبّهة ، وتعدّ لمباراة بين الاطفال دون سن الخامسة وتهيئ أربعة كراسي لخمسة أطفال في عملية تسابق ومباراة حالما يؤذن صفيرها بالتحرك وتحثهم للإسراع على استحواذ على الكراسي والجلوس عليها ليبقى أحدهم ربما الغافل او الكسول فيهم بلا كرسي ويكون مثار هزء وسخرية المعلّمة والصبية الصغار .

وفي المرحلة الثانية لسباق الاطفال تعود المعلمة لتقلل عدد الكراسي في جولة لاحقة ليخسر طفل آخر كرسيه وهكذا دواليك في مسابقة تجعلها رعناء تحبط عزائم الأطفال وتعلّمه أنانية الاستحواذ والسعي وراء غنيمته ومعاركة أقرانه من اجل إشباع رغبات الأنانية في دواخله إضافة الى إحياء حالة الإحباط للطفل الذي لم يظفر بكرسي في تلك المباراة الفجّة والأساليب التربوية السقيمة .

آلمني جدا اللوم والتقريع الذي صدر من المعلمة لهؤلاء الاطفال الذين لم يحظوا بكرسي وقد صبّت جام غضبها واتهمتهم بالكسل والخيبة والضعف وانهم لابدّ ان يكونوا سبّاقين في الاستحواذ قبل ان يناله غيرهم فالحياة – وفق تقديرها – فرص لنيل المكاسب والامتيازات ولا ترحم خانعا ضعيفا .

ظللت اراقب المشهد بحسرة وغضب وتأسٍّ لحالة الجيل الجديد من الصغار المحبطين الذين بدأوا يبكون بصراخٍ عالٍ وحالة الفائزين المنتفخين أنانيةً وكِـبَرا ، وكأنّ الفرد الواحد من الفائزين يقول في دواخلهِ ؛ لو أردتُ النجاح عليَّ أن أزيح زميلي وأدفعه بعيدا كي لاينالما أناله أنا .

شعرت بالأسى على الأطفال المتسابقين الذين فشلوا في اللعبة حتى نسيت ان أنوّه المعلمة على الإتيان بحفيدي لآخذه الى البيت .

هذه اللعبة التي أراها سمجة محبطة مع انها موجودة في بقية أقطارالعالم المتمدنة يلعبها أطفالهم ايضا لكنهم يحولونها منافسة شريفة ،فما ان يخسر الطفل مقعده وتنتهي اللعبة حتى يصيح به أقرانه وينادونه للجلوس معهم حيث يفسحون له مكانا ولو تَضايقوا في جلساتهم ، فلا مانع من ان يقتعد عشرة أطفال على تسعة كراسي يتراصّون مع بعض في مشهد يبعث على التوادّ والالتئام انطلاقا من قاعدة " لا نجاح الاّ بمساعدة الاخرين وفسح المجال لمن تعثّر اولالامر لينجح في المرة الثانية " من اجل نشر الوعي الجمعي الهادف والاتحاد معا وترسيخ فكرة التعاون والإيثار ونشر المحبة الجماعية لا الفردية ؛ فاللعبة نفس اللعبة لكن في محيطنا يتعلم الاطفال ثقافة الاستحواذ والأثرة بالغنيمة بينما في المحيط الاخر يكون الإيثار والتضحية بما عندك للآخرين هو المعيار وكأن طفلنا الفائز يقول : نفسي نفسي بينما الطرف الاخر يقول : غيري غيري .

أحسب ان الفوز والتألق لايتحقق بلا عون او سند مجتمعي ضمن المحيط الذي نعيش به ، فلا نجاح بدون دعم الاخرين وعلينا انلانمتثل لمقولة جان بول سارتر الشهيرة في كل الحالات باعتبار انالآخرين هم الجحيم بل هم النعيم والحافز والدافع ؛ فمثل هذه الثقافة الغيرية تراها في المجتمعات المتقدمة بكل مناحي الحياة ، فاذاخسر الطفل في اول جولاته كرسيّا فان المجتمع سيخسر واحدا ربما سيكون مبدعا وعالما مخترعا وكم من العباقرة قرأنا عنهم أنهم كانوا يعيشون طفولة كسولة متوحّدة وقد تعثّروا في تعليمهم الأساسي وما قبله لكنهم نبغوا أخيرا وصاروا في عداد الخالدين بفعل الحافز المجتمعي والتشجيع وإبراز التميّز على انه فعلٌ راقٍ يطمح اليه كل فرد انجذاباً اليه .

ليس النجاح لذيذا اذا ظهر وبرز بإحباط الغير ؛ ولكي نكون فائزبنعلينا ان ننتشل ونرفع من شأن غيرنا قبل ان نرفع من شأننا ؛ فلا فوز وارتقاء دون مساعدة الآخرين على تجاوز الفشل والعبور الى ضفة النجاح .

الرقيّ والنجاح الجماعي هو تمكين الأمم والشعوب على النهوض الذي نريده لنا ولغيرنا .

ليت المربين والمعلمين يدركون ان اطفالنا يرون مانقوم به من عمل وابتكار وسلوك سوي وتهذيب وتصرّف سليم وأخلاقي في الجانب التربوي كي يثير اعجاب اولادنا فليس دائما ان يمتثل الطفل الىمانقوله بل الى مانعمله امامه من أفعال ايجابية تلفت الانظار إعجابا ؛ وهذا العمل هو الذي يرسخ في اذهانهم ، اما القول والنصح فكثيرا مايتشتت كالضباب امام الحقائق العملية الساطعة خاصة اذا فهمنا ان ليس كل ناصح يعدّ لبيباً حاذقا مثلما ليس المربّون كلهم يمتلكون تلك الكاريزما الآسرة للأطفال كحال تلك المعلمة الفاشلة التي رأيتها لاتعرف سوى الردع والزجر والتنكيل والاستهانة بالطفل حينما يخيب سعيه في الحصول على كرسي له وهو ينافس أقرانه .

[email protected]