لا خلاف علي ان الناخب الفرنسي إزاح عن طريق صناديق الإقتراع يوم 23 من شهر ابريل الماضي ، أقوي حزبين كانا يتبادلان المسئوليات التنفيذية من أواخر خمسينات القرن الماضي ، وحتى الأمس القريب .. إزاح احزاب اليمين واليسار عن الصدارة ويبدو أنه في طريقه أن يفرض مزاجاً شعبياً شكلته كتلة صلبة من الفرنسيين ، توافقوا علي ضرورة تجديد روح القيادات السياسية والحزبية ، لأول مرة منذ ما يقرب من 60 عام !! عن طريق إقصاء الديجوليين والإشتراكيين .. 

يري غالبية المحللين أن هذه الازاحة التاريخية ،ترجع بالدرجة الأولي إلي الأداء المتردي الذي شهدته البلاد علي يد الرئيسين .. الديجولي نيكولا ساركوزي ( 2007 – 2012 ) والإشتراكي فرانسوا هولاند ( 2012 – 2017 ) وإليه – أي هذا الأداء – يرجع سبب فشل فرانسوا فيون المرشح الديجولي ومنافسه دبون إينيون المرشح الإشتراكي في الحصول علي مركز متقدم للمنافسة في الجولة الثانية .. حيث اكدت التقارير ان الناخب لَفظ الأول بسبب إداؤه المعيب طوال فترة ترأسه للوزارة في عهد ساركوزي .. ونَبذ الثاني لأنه واحد من أكثر مؤيدي سياسات الرئيس هولاند المرفوضة علي نطاق جماهيري واسع .. 

بدت فرنسا منقسمة علي نفسها عشية اعلان النتائج .. 

- فريق من إبنائها يتمسك بسياسات العولمة وينادي بالمشاركة في تحديث الاتحاد الأوربي ، يعيش أفراده في المدن الفرنسية الكبري ويعمل في مؤسساتها ويرتبط بنظام السوق الحرة والمشتركة ويدين بالولاء للإتحاد الأوربي .. 

- وفريق يخالفه علي طول الخط يخطط لإدارة ظهره للعولمة وأيضاً للإنسحاب من الاتحاد الأوربي .. ويري في شعار " فرنسا فوق الجميع " الحماية اللازمة خلال السنوات القادمة .. هذا الفريق يمارس حياته الإجتماعية والعملية من اطراف المدن الكبري ومن قلب الكيانات السكانية الصغيرة والمناطق الريفية .. 

خلفيات الفوز التاريخي .. 

علينا ان نعترف أن فاعليات الحملة الإنتخابية الفرنسية في مرحلتها الأولي كشفت الستار بقوة عن مُرشحين ، كانت الغالبية تعتبر أن حظوظهما فيها محدودة أو متوسطة علي أقصي تقدير .. 

الأول .. مرشح الوسط إيمانويل ماكرون ( حظي بنسبة 75 و 23 % ) غير المنتمي لأي من الحزبين الكبيرين .. البالغ من العمر 39 عام والقادم من عالم المال والأعمال إلي منصب مستشار الرئيس هولاند ثم إلي منصب وزير الإقتصاد .. المُحلق فوق الشارع السياسي الفرنسي بوهج وقوة منذ ان أسس تياره السياسي الذي أطلق عليه " إلي الامام " قبل نحو عام .. 

الثانية .. مارين لوبان ( فازت بنسبة 54 و 21 % ) زعيمة حزب الجبهة الوطنية ، التي ورثت رئاسة الحزب وكذا التطرف السياسي عن والدها جان ماري لوبان .. والتى نجحت إلي حد بعيد في الإستفادة بصورة لافته من تفاعلات خروج بريطانيا من عضوية الإتحاد الأوربي !! ومن تداعيات الحملة الإنتخابية الشعبوية التى مهدت الطريق أمام دونالد ترامب لكي يجلس في البيت الأبيض ..

هذين الفائزين بالجولة الأولي قسما المجتمع الفرنسي وشارعه السياسي إلي قسمين متضادين بنسبة لا تخطئها عين المراقب والمحلل .. 

إيمانويل ماكرون .. يسعي لترسيخ علاقات باريس ببروكسل وتثبيت مقعدها المتقدم علي مستوي الإتحاد الأوربي ، لذلك يعلن في كل مناسبة بوضوح رفضه لأي أفكار شعبوية ويكشف عن مواقف متقاربه من ألمانيا .. ويعلن انكاره لتأثيم الدين الاسلامي ، وحرصه علي عدم الإساءة إلي المهاجرين ، والتأكيد علي أن من يعتدي علي القانون ويحرض علي العنف يجب أن يُحاسب بعيداً عن الخلفيات الثقافية والإنتماءات الإيديلوجية .. 

مارين لوبان .. تُروج لخروج فرنسا من منطقة اليورو ، وأن تجري إستفتاء كالذي شهدته بريطانيا أواخر شهر يونية الماضي ، لكي تتعرف علي رأي مواطينها فيما يتعلق برغبتهم في البقاء ضمن عضوية الاتحاد الأوربي او تركه !! وتبدي مواقف شديدة التعصب لكل ما هو فرنسي بتزكية شعار " فرنسا أولاً " وعداء يماثله حيال اللآجئين والمهاجرين ، وتنادي بتطبيق سياسات رافضة للعولمة .. 

مجتمعيا يمكن القول ان هذا التقسيم جذب فئة الشباب العمرية إلي جانب ماكرون ، لأنه يمثل بالنسبة لهم " الأمل في التغيير " .. بينما بقي الوسط العمالي واصحاب المشروعات الصغيرة داخل دائرة لوبان .. 

الصفقات الانتخابية .. 

بدأت في طرح نفسها في سوق الإنتخابات فور إعلان وزير داخلية فرنسا لنتائج الجولة الأولي .. 

فها هو الرئيس الفرنسي هولاند يعلن وقوفه إلي جانب ماكرون ، مؤكداً أن برنامج منافسته الإنتخابي " يهدد الإقتصاد الفرنسي " .. تلاه المرشحين الخاسرين فرانسوا فيون و دوبون إينيون .. اللذين طالبا مؤيديهما بمنح اصواتهم له في الجولة الثانية " لوقف المد اليميني المتطرف " من جهه ، وللحفاظ علي التقاليد الفرنسية النابعة من المصلحة الوطينة العليا من جهة ثانية ولضمان استمرار فرنسا في مكانتها التاريخية في علي مستوي اوربا والعالم من جهة ثالثة ..

وتحت شعار " وحدة جميع الفرنسيين " هاجمت لوبان جبهة الجمهورية ، التي وصفتها بـ " المتعفنة " والتى لم يعد أي فرنسي راغباً في الإبقاء عليها ،وأعلنت إستقالتها من رئاسة الجبهة الوطنية لكي تكون " فوق الإعتبارات الحزبية ، ومن ثم تتمكن من توحيد جميع أبناء الشعب الفرنسي خلف برنامجها " وأكدت لقناة التلفزيون الفرنسي الثانية " ان ذلك سيكون لفترة مؤقته .. 

بعدها اعلنت أنها علي استعداد لأن تولي منافسها السابق دوبنون إينيون زعيم حزب " فرنسا الواقفة " القومي ، منصب رئيس وزارئها إن هو واصل تأييد لها كما أعلن من قبل ، وتعهدت ان تعمل ما في وسعها لكي يحظي بتزكية الأغلبية البرلمانية التى يقودها – في المرحلة الحالية - الحزب الإشتراكي .. 

المشروع الإقتصادي هو محرك الجولة الانتخابية الثانية القوي .. لماذا ؟؟ .. 

لأن الدولة الفرنسية تعاني من عجز كبير في الموازنة العامة منذ أكثر من ثلاثة عقود !! ولم تُلفح لا سياسات الديجوليين ولا الإشتراكيين في خفض حجمها .. كما تعاني من نفقات حكومية تعادل نحو 57 % من إنتاجها المحلي .. وتعاني من مؤشر بطالة مرتفع بسبب بطئ حركة دورتها الاقتصادية منذ عدة سنوات ..

ماكرون يدعو لتعزيز مكانة فرنسا في السوق الرأسمالية .. ويَعد بان يجذب إليها مزيد من الإستثمارات عن طريق تقليل القيود المفروضة حالياًعلي توظيف الخبرات واليد العاملة الأجنبية ، ويخطط لأن يوجهها إلي البنية الأساسية والمشروعات البيئية .. وأن يزيد من عدد ساعات العمل الأسبوعية بهدف تحصيل حجم أكبر من التأمينات لصالح الخزانة العامة .. وأن يُخفض مستوي الضرائب علي الشركات .. وأن يُقلص من حجم الإنفاق الحكومي علي الخدمات العامة ومؤسسات الدولة .. 

أما لوبان .. فتُروج لفرض سياسات حمائية للحفاظ علي مصالح الشركات الفرنسية وتقوية قدراتها علي الإنتاج والمنافسة ومن ثم توسيع مدي أسواقها الخارجية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وامريكا اللاتينية .. وتَعد بفرض ضرائب إضافية علي المؤسسات الحكومية والشركات والبنوك التي تفتح ابوابها لغير الفرنسيين .. وتعلن انها ستتمسك بأن لا تزيد ساعات العمل الأسبوعية عن 35 ساعة .. وتتعهد بالحد من اعداد المهاجرين القادمين سنوياً إلي فرنسا وان تزيد نفقات حماية الحدود .. 

كافة هذه المسائل تشغل الناخب الفرنسي .. 

ومن المؤكد لدينا أن تشهد الأيام السابقة علي يوم 7 الحالي سجالات لا حصر لها وإختلافات ليس لها سقف .. وربما مصادمات سياسية تتعدي العرف الذي تواضع عليه المجتمع الفرنسي منذ عدة عقود .. بهدف ترتيب الصفوف لتعزيز فرصة فوز أحد المرشحين علي الأخر .. 

يتساءل البعض .. لمن ستكون الغلبة ؟؟ 

التحقيق الذي نشرته مجلة " الإيكونوميست " البريطانية في عدد الأسبوع الأخير من شهر ابريل الماضي يبشر بفوز ساحق لماكرون .. كما ان استطلاعات الرأي التى نشرت يوم الأول من مايو ، تؤكد تنامي فرصه .. 

ورغم ذلك ، قد يشهد مساء السابع من مايو اعلانتًللنتائج يخالف كافة هذه التوقعات .. 

وإن غدا لناظره قريب ،،، 

 

[email protected]