لا اعرف ما اذا كانت مصادفة ان يلتقي صحفي مغامر او صعلوك، اكما ينظر بعض الساسة للصحفيين، خصمين لا يلتقيان هما المفاوض الايراني العنيد علي لاريجاني و نده القائد الامريكي الرشيق ديفيد بترايوس بعد عام تقريبا في ذات المدينة الصغيرة ضائعة الهوية جنيفا الباردة.

ساكتب عن لقاء لاريجاني 
طوال عام وبين اللقاءين لم يطرأ جديد على وضع العراق؛ الحال هو حال خصام ومعارك وطائفية وغياب المشروع المدني لاعادة تشكيل الدولة التي انهدت بعد 2003 " ليس مجيئا بالديمقراطية بل لاسقاط نظام صدام حسين " بحسب شهادة كوندليزا رايس مؤخرا.

ربما يمكن القول ان اهم ما حصل لوفد البرلمان العراقي في موتمر البرلمانات الدولية هو لقاؤه مع الوفد الايراني الذي لم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد الى جدول المؤتمر بل دخل رئيسه علي لاريجاني مباشرة الى أسئلة محددة سريعة وجهها الى الرئيس الشاب سليم الجبوري الذي حاول لملمة وفده الممزق من الداخل، و لم يسعفنِ حينها افضل من جواب بارد للرئيس عندما سألني كيف كانت اجواء اللقاء اجبت بعبارة " اعان الله الأمريكيين .. كيف تفاوضوا وتوصلوا لاتفاق نووي لايمكن الا ان يوصف بانه اتفاق مذل للمجموعة الدولية! ".

كرر لاريجاني منذ بداية اللقاء دعوة الجبوري لزيارة ايران ثلاث مرات، كان حينها لم يقم بزيارة طهران، و مضى يسأل من خلال مترجمه الايراني ذي اللكنة الكربلائية حتى تعثر المترجم مرتين فصحح له وزير الداخلية آنذاك محمد الغبان؛ كان مرشحا للوزارة وتولاها بعد نحو أسبوع من لقاء جنيف ثم استقال. 

كان الطرفان يجلسان وجها لوجه على مائدة طويلة تنعكس منها اشعة الشمس المشرقة بعد صباح ممطر وكنت اجلس في نهاية الصف الثاني متسللا بعدما اقتنصت كرسيا فائضا عن حاجة الوفد العراقي المساعد فالتسوق في تلك المدينة مغر وتسمرت امام المفاوض الايراني اتفحص تعابير وجهه وارصد حركات عينيه الصغيرتين من خلف زجاج نظارته التي اعتاد ان يرفعها على جبينه تارة او يضعها اسفل انفه تارة اخرى وانا اتمعن في طريقة حواره.

لاريجاني الى يمينه وشماله مستشارون يدونون ملاحظاتهم من دون بنت شفة ويكتبونها في أوراق بيضاء مطوية من الوسط ثم يجمعها هو واحدة فوق الاخرى بعد ان يقرأها سريعا دون ان تنقطع سلسلة أفكاره وكلما تقع عيناه على اوراقهم حتى يعود لاويا رقبته مسترسلا في حديثه المحدد يرتب لحيته الكثة بين حين وحين كلما بدأ بجملة جديدة.

لم يتكلم اي من اعضاء فريقه بينما تسابق وفد الجبوري لمنافسة الرئيس واحدة تغرد عن كردستان واخر يشطح بالتاريخ .
انتهى اللقاء الذي حث فيه لاريجاني على مزيد من دعم للصناعات الإيرانية ومحاصيل الزراعة الايرانية الواردة الى العراق داعيا ان يتضاعف حجم الاستيراد على الاقل ثلاثة اضعاف مرورا باتهامه للأمريكيين بأنهم ساهموا في سقوط الموصل وداعيا الفريق العراقي الى عدم التعاون معهم دون حاجة منه ليبرر كم مرة التقى هو نفسه مع الوزير الامريكي السابق جون كيري والوزراء الخمس و توصل مع اولئك الامريكيين الى اتفاق تاريخي!

دفع لاريجاني كرسيه الى الوراء بعد انتهاء اللقاء واذا برمشة عين حتى قفزت عضوة في الوفد العراقي بالتفاف عجيب لتفاجيء الجميع وتفتح حقيبتها الواسعة وتقدم الشوكولاتة السويسرية للوفد الايراني والى لاريجاني نفسه وعندما سألها باي مناسبة يا سيدة اجابت: " اليوم فرحة الزهرة " ضحكنا جميعا... وكانت ضحكة بطعم البكاء.

وحالما حل المساء افلتُّ ربطة عنقي وضعتها في جيبي و مشيت واضعا يديّ في جيبي امر على ضفاف البحيرة "ليمان" استنشق ما أستطيع من هوائها النقي و استجمع ما امكنني من الهدوء قبل رحلة جديدة ويوم تال جديد، تاركا كل مصائب العراق التي أرى حتى إذا هي بلحظات و اسمع صراخا لاثنين من الوفد العراقي وهما يركضان على ضفة البحيرة!؛ كانا قد تعرضا للسرقة بطريقة غريبة من قبل شابين عربيين على الأغلب انتحلا هوية أفراد الشرطة السويسرية وأخذوا دولاراتهم الجديدة وقالوا لهما عودا الى فندقكما الفاخر!

مرت على ذهني سريعا تلك الملايين المسروقة من خزائن العراق ولم يكترث لها احد بينها اموال الايفادات و الرحلات التي ليس لها مبرر ولم يركض وراءها مسؤول لاستردادها. 

ودعت جنيف حزينا كالعادة متمنيا العودة اليها بأقرب فرصة فلم احظ بما يكفي من وقت لاتوقف عند متحف "باربير مولر"، او صرح "سانت بيير الديني"، و"ميزون تافل"، او ان اتلمس كم من أفكار تقاطعت على ارصفتها المتعرجة والازقة المليئة بالمقاهي وربما حقائق لا يُمكن تخيلها.