تلقت القمة الإسلامية الأمريكية بالرياض اعتذار الرئيس السوداني عمر البشير عن حضورها.. وانطفأ الوميض المندس تحت الرماد بأقل الخسائر وفقا لفن الممكن.
بدا المشهد منذ لحظاته الأولى مثيرا ومليئا بتفاؤل مندفع، حيث تسارعت بعد الرفع الجزئي للعقوبات الأمريكية على السودان نبرة أن (كل) الملفات الشائكة بين البلدين قد انتهت بهذا الرفع، بل ووصلت سقوفات التفاؤل إلى حد توقع مصافحة بين البشير وترامب خلال فعاليات القمة.
واضح ان كثيرا من التحليلات والتوقعات كانت تنطلق من أرضية لا تمت للواقع بصلة.. فما جرى من الرفع الجزئي المشروط للعقوبات لم يكن يعني سوى أن هناك تقدما قد حدث في تنفيذ اشتراطات واشنطن تجاه الخرطوم، بمعنى حدوث خطوة في طريق ليس قصيرا لاحتواء تعقيدات العلاقة الأمريكية السودانية.
لكن معظم القراءات تسارعت في اتجاه رفع كامل للعقوبات استنادا لتسريبات هنا وهناك وتحركات لشركات امريكية صوب الاستثمار في السودان.. في حين أن القرار الحاسم في واشنطن لم يتم اتخاذه بعد، وهو قرار لا يمكن التنبؤ به في ظل إدارة تخبئ الكثير من المفاجآت تحت معطف ترامب، وتتعامل بأساليب غير معتادة في مختلف القضايا.
بتلك المظلة التحليلية سرت توقعات في (حزمة) أخرى لا دخل لها باشتراطات العقوبات، وهي رؤية واشنطن تجاه استدعاء البشير للمثول أمام محكمة الجنايات الدولية، رغم أن تلك الرؤية لم تختلط يوما في ذهنية الإدارة الأمريكية مع الملفات الاخرى، على عكس ما كان يسود في الذهنية السودانية الماسكة بعصب القرار والتي ترى أن الرضاء الأمريكي في ملف ما.. يعني رضاء يشمل كل الملفات الأخرى.
الرياض، على أي حال، كانت تلم بما يجري، وتعلم بحكم تنظيمها للقمة وعلاقاتها المتطورة مع النظام السوداني أن عليها القيام بالواجب تجاه الخرطوم، ولذلك تم توجيه دعوة رسمية للبشير كي يحضر القمة وفقا لما تم إعلانه رسميا، في وقت أعلنت فيه السفارة الامريكية بالخرطوم، تزامنا مع تسريبات أمريكية اخرى، رفض الإدارة الأمريكية حضور القمة من أي شخص مطلوب من محكمة الجنايات الدولية، وتم ايراد اسم الرئيس البشير تحديدا في ذلك الإعلان.
بالطبع لاحت بوادر صراع للإرادات في الأفق، فقد وضح أن الرئيس البشير الذي صرح من قبل بمشاركته في القمة، بات أمام تشدد أمريكي رافض لوجوده الشخصي في ذلك المحفل، كما وضح أن الرئيس ترامب ليس مستعدا لحرق المراحل والقبول بتنازل دبلوماسي ضخم لم يحن الوقت لتقديمه.
لذلك يمكن القول أن المخرج الآمن من الحرج السياسي والدبلوماسي، وبخسائر (معقولة) قياسا بالمتوقع.. هو القرار الرئاسي الذي صدر بالاعتذار الشخصي عن حضور القمة.. وتكليف مدير مكتب الرئيس وزير الدولة برئاسة الجمهورية الفريق طه الحسين بحضور الفعاليات ممثلا للسودان.
ما حدث قد حدث.. لكن الأهم هو الاستفادة مما جرى، والاهتمام بعدم خلط الأوراق في مواقع القرار السوداني، حيث أن مصالح أمريكا واشتراطاتها قد تقتضي قبولا ما برفع جزئي أو كامل لعقوبات واشنطن على نظام الخرطوم، وهذا ما يجب السير حثيثا صوبه، لكن لا شيء يدعوها للرضاء عن البشير ما دامت محكمة الجنايات مصرة على ملاحقته، ما يعني أن الدبلوماسية السودانية يجب أن تتجه لإجهاض القرار من منبعه، وهو المحكمة نفسها.. لا بالتشكيك في أجندتها.. ولكن بالوصول إلى تسوية عن طريق الحكومة والأصدقاء والجهات المعارضة وأصحاب النفوذ الدولي لطي هذه الصفحة.. وتلك هي الخطوة التي ستجعل التحفظ الامريكي على شخص البشير يفقد ركيزته القائم عليها.
فرز الملفات هو حجر الزاوية في ضمان علاقات أمريكية سودانية بلا نتوءات، ومعالجة الجزئيات هي الباب للمعالجات الشاملة التي طال امل السودانيين انتظارا لحدوثها.


[email protected]