لعل من اكثر القضايا تعقيدا في الفكر الاسلامي والتي أبقت لدينا مزيدا من التخلّف وبطء اللحاق الى ميادين التحضر والرقي هي مسألة الاستعباد لفعالية العقل ووليده الفكر والخنوع لما هو منقول من الإرث وبالأخص الديني منه وعدم الجرأة على مخالفته او على الاقلتعديله او تصحيح مساره كي يوائم العصر الذي نعيش فيه وهو مانسميه الإذعان للنقل دون اشراك العقل في ترتيب او تنميق فكرة ما بمسحة عقلية ناضجة .

فلا زال الكثير ممن يتظللون بالدين يؤمن بانه لايوجد شيء فوق النصّ وللنص قدسيته مما يؤدي الى مصادرة العقل وتعطيله فلا اجتهاد ولا رأي مع وجود النص حتى وصل الامر الى الغاء العقل تماما مادام النصّ المقدس حاضرا عيانا وكأنّ النص ليس وليد العقل الذي أنجبه ، فالعقل يسبق النقل في منظور المنطق وكل بحث يقوم على النقل سيؤدي بنا الى نتائج غير مانراها لو بحثنا ونحن نستعين بالعقل .

هنا لابد من التذكير لحالات حدثت في عصر صدر الاسلام على اختراق النقل وعدم الإذعان اليه في خطوات قام بها العقل المسلم حينما شعر بان لافائدة من تتبّع اثر النقل والانقياد له نتيجة تغيير الاوضاع الاجتماعية والسياسية واختلاف الزمن من مرحلة الى اخرىحينما قام عمر بن الخطاب برفع حصة المؤتلفة قلوبهم من صدقات الزكاة المقررة على اغنياء المسلمين التي ترد الى بيت المال مع انهاواردة في القران الكريم نصّا منقولا لاشائبة على تفسيره ولم يعبأ بكل الاحتجاجات والمعارضات التي وجهت له .

وكذا الامر بالنسبة لزواج المتعة المؤقت الذي مُنع هو الاخر بأمر ابن الخطاب وكأني به يردد في نفسه الاية الكريمة " والذين اذا ذكروا بآيات ربهم لم يخرّوا عليها صُمّا وعميانا " فليست كل مواقف العقل معطلة في الاسلام كما يدّعي البعض انما هناك حالات تمكّن فيها الفكر الاسلامي المستند على العقل بالوقوف ضد النص النقلي تمرّدا واختلافا وان ورد ذكره في القران الكريم وأقوال السنة النبوية .

هناك العديد من المدارس العقلانية ظهرت عندنا منذ القرن الاولوالثاني الهجري قبل العقلانية الديكارتية القائمة على الشكّ بقرون طويلة ( القرن السابع عشر الميلادي ) إذ جعلت العقل في المرتبة الاولى في ترتيب حياة الانسان المسلم بدءا بالمعتزلة واعلانهم بالفكر العقلاني قبل السمع وحتمية ان يؤمن المسلم ويعرف الله بالعقل حتى انهم رفضوا العديد من الاحاديث النبوية التي لاتتوافق مع قناعات العقل ،واعلنوا حربهم الشعواء على المرويّات والخرافات والشعوذاتالتي دخلت الدين خلسة من ثنايا النقل غير الدقيق لكن المدّ السلفي النقلي كان اقوى منهم علما ان قوته ليست بالحجّة والبرهان وانما بقوة السلطة الغاشمة ورعاعها الجهلاء الذين لايرعوون من استخدام البطش في اقسى حالاته مما جعل العقلانيين ينحسرون شيئا فشيئا وكيف لأنسان مفكر واعٍ ان يتقبّل اتهامات ودعاوى الكفر والخروج من الدين اذا رأى خبرا او حالة ما في الكتاب او السنة النبوية لم ترُق لعقله ويأبى الانصياع لها باعتبار ان الدين – وفق دعواهم الزائفة -- قائمٌ على مخالفة ماتريده النفس وما تهواه وتخالف ايضا رأيَه ومعقولَهوقناعات تفكيره .

ولنعترف بصدق ودون مواربة أو ميل عن الصواب ان ثقافة النقل في موروثنا الاسلامي تفوق كثيرا طروحات العقل خاصة فيما يتعلق بمسائل الاجتهاد والرأي والتخريجات العقلية الفقهية الاخرى فلا مقابلة ولا توازن بين العقل والنقل ومازالت السهام مصوبة نحونا –نحن المسلمين -- حيث يتهموننا بان الاسلام لايحترم العقل بالقدر الكافي الذي يولي للنقل كل التبجيل والإذعان ويأنف المسلم من التفكير طالما ان النص النقلي والخطاب الجاهز موجودا وعلينا الخضوع له بلا ادنى تمحيص او غربلة او رؤية جديدة توافق عصرنا وحداثتنا ، وان علينا ان نقتنع بالمسلّمات والثوابت التي اتى بهاالخطاب الديني ، ويوردون ذرائع شتى لهذا الانقياد الاعمى منها ماقيل ان " العقل الصريح لايعارض النقل الصحيح " وما يدعى بان بان النقل موحى من الله عن طريق الانبياء والرسل نقلتها الملائكة من السماء لترتيب وترسيخ عقائد الله في الارض .

وهذه الغفوة عن العقل والانقياد الاعمى للنقل جاءت بسبب صفة القداسة التي ألبسوها على ماجاء في نصوص القران الكريم والسنة النبوية مع ان الكثير من الآيات واقوال النبي قد قيلت لمناسبة ما وليس من الضروري ان تكون منهاجا دائما مخترقةً الزمان والمكان ويلزم الاخذ بها وهل كان لزاما علينا ان نتمسك بصدى حروف عبرت قرونا وآلافا من السنين كي تهجع في ادمغتنا وتُلزمنا ان نتّبعها على عواهنها بذريعة ان الاسلام صالح في كل زمان ومكان .

هنا لابد من نزع جلباب القداسة عن الخطاب الديني واعتباره وتقييمه إرثا تاريخيا قد أدّى دوره ردحا من الزمن ونضبت فعاليته مثل بطارية استنفدت طاقتها ولم يعد لها تلك الحيوية وعلينا البحث عن طاقة بديلة اكثر فعالية وهي طاقة العقل التي لاتنفد بل تتقدم وتبدع وتبتكر كلما تغذى بالتنوير والرقيّ من اجل ترتيب حياتنا العقائدية بالشكل السليم كي تتوافق مع الحداثة والعصرنة الجديدة ومن العيب اننا لازلنا ندفع ثمن التصنيفات الفجة السقيمة التي عشعشت في عقول الجاهلين والمغرضين والتافهين باعتبار هذا الموما اليه ناصبي او رافضي ومرتد وكافر ومؤمن وزنديق و...و ... ولا ننسى ان القران نفسه حوى الكثير من الايات التي أكد الكثير من الفقهاء على عدم الاخذ بها وفق نظرية الناسخ والمنسوخ فما قيل في زمكان معين ليس بالضرورة انيسترشد بها في زمكان اخر وهذا التوجه ليس خروجا من الدين ابدابل تشذيبا له مما وردتنا من المرويات المشكوك بها والعنعنات / عن فلان وعن فلان ..وضرورة فصل ما اختلط في تراثنا بين النص الديني الموثق المرضيّ عنه والنصّ الفقهي القابل للتشكيك والضعف او حتى طرحه جانبا واعتباره من خزعبلات الفكر الديني وشوائبه التي لابد من رميها في المهملات مع اننا نأبى فكرة هذا الخروج الفجّ من الدينلمجرد الاستخفاف بنص ديني وازدري من يستهزئ بالموروثات العقائدية جزافا بل عليه ان يحكم عقله ويعرف سبب النزول ومقام الكلام لما قيل ؛ فليس كل ماوردَنا يتصف بالضعف ففي إرثنا العقائدي مايغني حاضرنا ومستقبلنا من روائع الكلم وجوامع الحِكَـم .

ومادام العقل الراجح هو وسيلة بحث وإدراك وتحليل واستنتاج سليم وقبطان ماهر يتقن قيادة السفينة ويمسك الدفّة بمهارة ومران فانه حتما سيوصلنا الى مرفأ الهناء والاستقرار لو سعت الامة ومخلصوها من رجال السياسة والدين القويم لا السقيم الى الاهتمام بالعقول النيّرة بكل مجالات اختصاصها من اجل بناء فوقي ثقافي يرتدي الحداثة ملبسا ، متوّجا بالعقل الناصح ونازعا كل أدران الجهالة والخرق البالية البائدة وتحريره من القيود العقلية السلفية الضارة وبهذا نكون قد وضعنا النقاط على الحروف من اجل ان يسبق العقلُ النقلَ وان نضع التفكيرَ قبل التكفير كي نؤسس عقلانية عربية حداثويةجريئة وقوية وشجاعة تتسلح بالحجج والبراهين مثلما تتسلح باليد والساعد المكين والعقل الرصين معا في مواجهة من يتصدّى لها من الجهّال والمنتفعين من تراكم التخلف ولو كثرت أعدادهم وعدّتهم والاّسنبقى هزيلين في اضعف حالاتنا انتظارا لموت محقق ونكون لاحقين بالعرب البائدة حالنا حال عاد وثمود ونهلك هلاكا تاما بالطاغية .

 

جواد غلوم

[email protected]