(1)
مشهدان لا يريدان أن يغادرا الذاكرة.
مشهدان «رائعان» في عالم السياسة الخارجية الأجنبية.. لكنهما في الوقت ذاته مشهدان «مروعان» لي كمواطن عربي غير منعزل عن العالم من حوله، أو يفترض ذلك..!.
فأما المشهد الأول فتجسده الصورة التي جمعت بين رؤساء أمريكا السابقين الخمس الذين لا يزالون أحياء ( كارتر، بوش، كلينتون، بوش الابن، اوباما) وقد التقوا في حفل تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد( ترامب) بالبيت الأبيض، لم يُـقتل أحد منهم، و لم يسجن، ولم يوضع في القفص، ولم يلق به وراء القضبان.. كلهم لا يزالون في الإطار بشكل أو بآخر، يشيرون ويستشارون، وينفعون بلدهم، بالخبرات والتجارب، لم يسيء أحد لمن كان قبله، لم نسمع أو نقرأ أو نشاهد إساءة من أي نوع لأي منهم، وقار واحترام، وصفحة وراء صفحة في تسلسل موصول، لا تخوين، لا سباب، لا اتهام، لا تحقير، لاتصغير من شأن، وقاسمهم المشترك الأعظم هو الشعب والمجتمع والدولة.
وأما المشهد الآخر فتمثله صورة الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون في قصر الإيليزيه وهو يتسلم مقاليد السلطة من سلفه الرئيس فرانسوا أولوند، وعقد الرئيسان اجتماعاً مغلقاً بينهما في مكتب الرئاسة سلم بموجبه أولوند ماكرون الشفرة السرية الخاصة بالسلاح النووي الفرنسي قبيل إلقاء خطاب رسمي أمام المدعوين وفق ما تقتضيه التقاليد السياسية في قصر الرئاسة الفرنسية، وبتسلمه مقاليد السلطة رسمياً أصبح إيمانويل ماكرون الرئيس الثامن للجمهورية الخامسة في فرنسا حيث تمتد ولايته الرئاسية لخمس سنوات، وفي ختام مراسيم تسلم السلطة في قصر الايليزي ودع الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون سلفه فرانسوا أولوند بمناسبة إنتهاء ولايته الرئاسية بشكل رسمي.

(2)
بقدر الإشراقات التي يتجلى بهما هذان المشهدان السياسيان، بقدر ما يلقيان في النفس العربية ظلالا كئيبة، وترسل من الخواطر والتداعيات البغيضة إسقاطات شتى على كثير من الأوجاع المحتلة نفوسنا ألما، والأوضاع المختلة في علاقتنا كشعوب عربية بحكامها. 
فحكامنا منذ سالف العصر والأوان حتى الآن، وهم يؤخذون أخذ عزيز مقتدر مباشرة من كراسي الحكم إلي المقابر، وفي رواية أخرى إلى الأقفاص، وفي رواية ثالثة وراء القضبان.. قتلا ونفيا وخطفا وتغييبا.. إلى آخر مفرات هذه العائلة السياسية المسمومة.
ويبدو أنني سأظل أتساءل: لماذا يبقى الحكام عندنا حتي أخر نفس من الصدر، وحتى آخر لحظة من العمر؟ لماذا يتشبثون كل هذا التشبث، بكرسي السلطة إلى هذه الدرجة المرعبة؟ لماذا يصرون على أن يعيشوا زمنهم وزمن غيرهم بكل هذا العنفوان الوهمي؟.
هل هي (لطشة الألوهية) التي تصيبهم أو يصيبون أنفسهم بها عن عمد وسبق إصرار وترصد؟.
من فضلك شاركني الحوار فالسؤال نصف الجواب.

(3)
وأبدا... لا يريد حكامنا أن يتعظوا من (مصائر ) بعضهم البعض وهي (بصائر) لهم ولنا، إن فيهم لطشة كل واحد منهم يدعي أنه سيفعل المعجزات، ولا أحد يستطيع ذلك، إنه مجرد وهم في تفكيرهم ومخيلتهم.. بسبب الكرسي بسحره وسره، التشبث به والموت من أجله، والغاية تبرر الوسيلة.. 
من أجل ذلك... فإن الدورة الدموية العربية السياسية.. متجمدة! وشرايين الحياة الآنية والآتية.. متكلسة إلا قليلا! إذا مات حاكم ما يموت كل شئ.. تهتز ثوابت الدولة والمجتمع كلما انتهت فترة من الحكم.. وهذا من نتاج تصديق الموروث السلبي الذي ترسخ في وجدان الأمة عبر التاريخ من قبيل: (يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن) و (تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع) و (سلطان تخافه الرعية خير للرعية من سلطان يخافها) و(من تعرض للسلطان أرداه، ومن تطامن له تخطاه، وإذا زادك السلطان إكراما فزده إعظاما، وإذا جعلك عبدا فاجعله ربا) و (إذا كان الحاكم عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائرا فعليه الوزر وعليك الشكر)...و...و... وعلى الطريقة الحديثة يأتي توصيف الشاعر نزار قباني في إحدى قصائدة السياسية المتوحشة:
فنحن شعوب من الجاهلية
نبايع أربابنا في الصباح
ونأكلهم حين تأتي العشية 
ولا يزال بيننا المغلقة عقولهم من (الفراعنة والهامانات والقوارين) ولايزال بيننا أبو جهل وأبو لهب..وغيرهم ممن لايبالون بالقنابل المسيلة لكبرياء النفوس الأبية، لكنهم لا يفقهون، ولايزال بيننا «ألف حجاج وحجاج» يظن أيضا أن رؤوسنا قد أينعت أيضا وحان قطافها، ولا يزال يرتدي عمامته حتى نعرف أنه «ابن جلا وطلاع الثنايا» ولا يزال فينا خلفاء القصور وما يجري في دهاليزها وأقبيتها من فتن وصراعات وقتل وتقتيل وسفك دماء ومحارم.. ولا يزال فينا عبدة الأوثان، وخدام الأصنام.. ولا يزال صوت وصمت القبور يحكمنا.. بسبب الكرسي. 

(4)
الكرسي دوّار.. ولو كسر منه أصغر مسمار سينهار، وما ادراك ما الانهيار، فالكرسي لا يدوم لي أو لك، ولو دامت لغيرك ما وصلت اليك! عليك أن تدرك يقينا ان ليس من حقك، ولا ينبغي لك، ان تنزعج لانك تركت الكرسي الذي تجلس عليه بسبب او لآخر، لا ليست مراكزنا هي التي تحدد شخصيتنا، ولا مكاننا هو الذي يبلور مكانتنا، أنا اليوم هنا وغدا في مكان آخر، كلنا نكمل كلنا في سلسلة واحدة، كلُّ عليه امانة يؤديها، وله رسالة يوصلها، وهذه سنة من سنن الخلق والوجود، وناموس الخالق في المخلوق! لا ينبغي ان تسول لي نفسي انني دائم او مخلد أو.. أو..هذا مستحيل، فدوام الحال من المحال، وكل شيء مؤقت، له اجل وله وعمر افتراضي، لكن اكثرنا يريد ان يعمر إلى ما لا نهاية·· وهذا ايضا مستحيل.. بفضل القانون الذي يتجلى في سورة (يس):»ومن نعمّره ننكسه في الخلق أفلا تعقلون» 
وإذا كان ليس المهم هو الطاولة والأهم من يدير الأوراق التي على الطاولة.. ليس المهم هو الكرسي فالأهم من يجلس على الكرسي، من ذا الذي يستطيع ادارته وإنارته ويحفظ توازنه من الاختلال والاحتلال! ومع ان الكثير والكبير والعديد من الكراسي في العالم من حولنا، سواء كان عالمنا الصغير او عالمنا الكبير، تتغير كل يوم.. وبعضها يتداعى.. وكثير منها يتهاوى.. الا اننا لا نتعظ ولا نريد، وترى الناس سكارى بالمؤقت و المبهر و الخاطف للبصر و الهالك وما هم بسكارى ولكن عذاب الكرسي وعذوبته: رائع ومروع! 

(5) 
كل شيء هالك نعم.. لكن ليس الهلاك بمعنى الموت، ولكن بمعنى جدل الاشياء وتوليد الاشياء من بعضها البعض، وحين ندرك ذلك، تستقيم امورنا الى ان تصفر أوراقها وتساقط من شجرة الحياة·· وكل طاولة لها كرسي وكل كرسي له من يجلس عليه.. لكن إلى حين، نعم نحن نحتاج نجوماً تضيء الظلام والاظلام بحق، وصولاً إلى حقيقة الرؤيا والرؤية.. نريد نجوماً ورموزاً، لا تعرض علينا صوراً شاهدنا من قبل آلاف المرات، ولا تسير بنا في طريق تعبنا من السير فيه.. كل عصر يحتاج أبطاله، وقد يكون هؤلاء الأبطال من الانبياء أو الكهنة، من الملوك أو المحاربين، من المستكشفين أو المحترفين، من الفلاسفة أو الشعراء، لكن كل عصر من العصور يحتاج إلى بعض الأفراد غير العاديين الذين يستطيع الناس جميعاً، رجالاً ونساء، أن يتطلعوا إليهم كمثال يحتذى أو حتى كظاهرة جديدة تجذب الاهتمام، لكن المشكلة - في رأي أستاذنا محمد حسنين هيكل - بالنسبة للنجوم اللامعة في العصر الحديث، انهم مثل راكبي الدراجات، عليهم أن يواصلوا الحركة باستمرار، وألا يتعرضوا للسقوط على الأرض، بل ان عليهم باستمرار أن يتحركوا أسرع ثم أسرع، لأن طريق السباق فيما بينهم على الأضواء، طريق يتصل ارتفاعه لأنه صعود جبل، إن الأضواء تستطيع أن تخفض ملامح الضعف، كما أن ألوان الماكياج تحت وهج الأضواء تستطيع أن تبهر الآخرين، لكن اللحظة سوف تجيء حين يتباطأ الايقاع ويتحوّل الاهتمام، ربما بسبب ظهور نجم لامع جديد في نفس المجال، لكن أحداً من النجوم اللامعة لا يستطيع أن يحتفظ بمكانته عن طريق صنع ما هو عادي، المنتظر منه دائماً هو غير العادي، وغير المتوقع، بل وأحياناً المخيف.