الوصف الدارج على ألسنة الكتاب والمحللين السياسيين لعالم اليوم هو وحيد القطبيه وهو ما يعني أن الولايات المتحدة وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي غدت القطب الوحيد في العالم يؤول إليه ترتيب شؤون العالم المختلفة وحل جميع الإشكالات بما يتناسب ومصالحه . ويزيد البعض في القول أن دول البريكس الخمسة تحاول خلق عالم متعدد الأقطاب بدل وحيد القطبية . تلك المفاهيم العامة وغير الصحيحة ناجمة عن كون الدولار وهو عملة أميركية في الأصل هو ما يحكم عالم اليوم ويرسم خارطته الجيوسياسية والعلاقات الدولية وحتى الوطنية في جميع أنحاء العالم . لم يكن الدولار يلعب مثل هذا الدور المعولم في السابق قبل مؤتمر رامبوييه 1975 المؤتمر التأسيسي لمنظومة (G 5) حيث كان مثله مثل سائر العملات الأخرى معياراً للبضاعة وكان العالم الرأسمالي كله ينتج البضاعة، أما اليوم فالعالم كله لا ينتج البضاعة باستثناء شرق آسيا ولم يعد الدولار رمزاً للبضاعة حيث عولمه مؤتمر رامبوييه ليحل محل البضاعة في تقرير خريطة العالم ومصائره . 
صحيح أن الدولار هو أصلاً عملة أميركية وقد اضطرت أميركا في العام 1971 إلى الإنسحاب من معاهدة بريتون وودز (Brittonwoods) التي تكفل قيمة الدولار بالذهب فكان ذلك إشارة على انحطاط القيمة الفعلية للدولار ؛ وزاد في التدهو مما اضطر الاداره الأميركية أن تعلن في العامين 1972 و 73 ثلاث مرات تخفيض قيمة الدولار (Devaluation) . الولايات المتحدة وهي قلعة النظام الرأسمالي العالمي وقائد حراسته تجابه تدهور رمز قوتها وهو الدولار استعانت إدارة نيكسون 1971 بالخبير الاقتصادي المالي جورج شولتس (George Shultz) لمعالجة أزمة الدولار . لم يجد شولتس أي علاج آخر سوى خفض نفقات الإدارة . حاول ذلك لثلاث سنوات لكن أثراً ما للعلاج لم يكن هناك . فكان أن بدا أن الأمر هو أخطر بكثير من علة في النقد بل يتعلق الأمر بصحة النظام الرأسمالي كما أخذ يشير بعض الإقتصاديين، وهو ما دعا نيكسون في مايو أيار 1974 إلى استبدال وزير الخزانة شولتس الذي لم ينجح بمعالجة الأزمة بأحد المتعصبين للنظام الرأسمالي والمدافعين عنه بتطرف شديد وهو وليم سيمون (William Simon) . بعد أن تحقق وزير الخزانة الجديد أن الأخطار تحيق فعلاً بالنظام الرأسمالي رأى أن ذلك يستدعي بالضرورة التشاور مع نظرائه في مراكز الرأسمالية الكبرى، فاستدعى وزراء المالية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان للتشاور . في نوفمبر 1974 عقد وزراء المالية الخمسة مؤتمرهم في قاعة مكتبة وزارة الخارجية في واشنطن وافتتح الجلسة وزير الخزانة سيمون متسائلا .. لئن كان ما تواجهه الولايات المتحدة هو انهيار النظام الرأسمالي فماذا عساكم فاعلون ؟ فكان جواب الأربعة بالطبع .. سينهار النظام في بلادنا أيضاً . التساؤل الحدي الكبير الذي بدأه سيمون كان يهدف لأن ينصاع الوزراء الأربعة لكل الإجراءات الكيفية التي سيقترحها سيمون من أجل الحفاظ على نفوذ وسيطرة مراكز الرأسمالية على العالم حتى وفي حال انهيار النظام الرأسمالي . اتفق الوزراء الخمسة على قرارات حديّة إنقلابية ما كان جورج شولتس المتخصص في علم الإقتصاد ليوافق عليها لمعارضتها أبسط مفاهيم علم الإقتصاد، أما وليم سيمون المتطرف في الدفاع عن النظام الرأسمالي فأمر آخر . اتفق الخمسة على ثلاثة قرارات انقلابية وعلقوها حتى اجتماع الدول الخمسة على مستوى القمة .اجتمع قادة الدول الخمسة في نوفمبر 1975 في قلعة رامبوييه بضواحي باريس وأصدروا إعلان رامبوييه يتضمن 15 بنداً بينها القرارات الثلاث الانقلابية في البنود 10 و 11 و 12 . البندان 10 و 12 يقترحان محاولتين لإنقاذ النظام الرأسمالي من الإنهيار . يتحدث البند 10 عن فتح الأبواب الموصدة للتبادل التجاري مع دول المعسكر الاشتراكي ؛ ويتحدث البند 12 عن إفاضة الأموال على الدول النامية المستقلة حديثا على شكل مساعدات وقروض سهلة كي تعود هذه الدول تصرف فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية . لقد ثبت فشل المحاولتين خلال السنوات الخمس التالية لإعلان رامبوييه فالدول الإشتراكية كان أن قد بدأت في التراجع الإقتصادي منذ أواسط الخمسينيات ولم يعد لديها من الإنتاج سوى الأسلحة التي لا يحتاجها الغرب بالطبع على الإطلاق، والدول المستقلة حديثا لا تمتلك نظاما للإنتاج يؤهلها لتصريف فائض الإنتاج المتحقق بالضرورة في مراكز الرأسمالية .
بقي هناك البند 11 وهو الذي قلب العالم، فعالم ما بعد رامبوييه ليس هو عالم ما قبله . يقول القرار 11 دون مواربة أن الدول الخمسة والتي تملك أموالاً طائلة من العملات الصعبة أنها متضامنة ومتكافلة في الدفاع عن أسعار عملاتها ضد الحركات الغريبة الطارئة في أسواق الصرف . ماذا يعني هذا القرار الخطير جداً على التطور الإجتماعي لمختلف الأمم ؟ يعني أن نقودها لم تعد معايراً للبضاعة أو بضاعة أخرى كما هي النقود بطبيعة وجودها كمعادل للبضاعة، وهو يعني أخيرا فصل النقود عن البضاعة وإلغاء كل علاقة بينهما . أي أن الدولة تملك قيمة ثابتة من النقود يتم تحديدها بقرار سياسي من الدولة ذاتها بغض النظر عن امتلاكها من الثروة البضاعية أو مقدار إنتاجها من البضاعة . قصور سيمون الفكري بسبب تطرفه في نصرة النظام الرأسمالي خلص إلى أن الدولة الرأسمالية هي التي تمتلك المال الكثير وليس التي تنتج الكثير من البضاعة ومنها الذهب - أهو قصور فكري أم لصوصية موروثة من النظام الرأسمالي الذي يسرق فائض القيمة من العمال !؟ ولكي يكتمل الانقلاب أعطى مؤتمر رامبوييه تعليمات لصندوق النقد الدولي الذي كان سيجتمع في جمايكا في يناير 1976 ليقرر إلغاء الغطاء الذهبي للنقد وأن لكل دولة الحق في تحديد سعر صرف عملتها . وهكذا تحول الرأسماليون الكبار من رأسماليين إلى لصوص يسرقون الأمم بنقود مزورة فقدت أصولها حيث تعذر على هذه الدول الخمسة الاستمرار في إنتاج البضائع بعد أن فقدت أسواقها الدولية . تكرر مثل هذا الكلام مرات ومرات ومع ذلك لم يدرك عامة القراء والمحللين تداعياته الخطيرة على مستقبل البشرية وهي لم تعرف النقد إلا معايراً للبضاعة بل هو البضاعة التي لا تستهلك . كان الذهب، وهو أغلى بضاعة، هو النقد المعاير لمختلف البضائع لكن الذهب بضاعة قابلة للإستهلاك فاستعيض عنه بالسندات المالية التي يوقعها في كل دولة محافظ سلطة النقد ووزير المالية ككفالة لاستبدال السند بقيمته من الذهب .

بعد رامبوييه بات توقيعا سلطة النقد ووزير الخزانة على الدولار كاذبين حيث الولايات المتحدة تنكر على حامل الدولار تبديله بالذهب , له أن يشتري كميات محدودة من الذهب في الأسواق الأميركية ولكن ليس من الدولة كما كان الجنرال ديجول قد استبدل احتياطي فرنسا من الدولار بالذهب من الحكومة الأميركية في العام 1968 وقد استشرف هبوط الدولار مع بداية السبعينيات . إنكار استبدال الدولار بالذهب يتضمن فيما يتضمن إنكار استبدال الدولار بالبضاعة فالذهب ليس إلا بضاعة وهو أمر على كل حال يتحقق طالما أن الولايات المتحدة لم تعد منتجاً للبضاعة، يدل على ذلك عجز ميزانها التجاري السنوي زهاء ترليون دولار وباستمرار وهو ما يعني أنها دائما بحاجة إلى استيراد بضاعة من الخارج نظراً لقصورها في إنتاج البضاعة .
القادة الخمسة الكبار (G 5) أعلنوا عزمهم على كفالة سعر الصرف في أسواق المال، وعزوا ذلك إلى مقاومة الحركات غير العادية الطارئة في أسواق الصرف مع أن تلك الحركات غير العادية ما كانت لتكون لو أن مراكز الرأسمالية الخمسة إياها حافظت على إنتاج البضاعة حيث ستكون عملتها مسقوفة بسقف أمين ثابت لا تهزه أقوى الرياح ، ولما اضطرت هذه الدول لانتهاك القانون العام الأساس الذي ينظم العلاقة بين الطبقات في المجتمع وبين الأفراد فيه بإعلان نقودها ليست من البضاعة . هذه الدول الخمسة تستطيع أن تكفل سعر الصرف، صرف نقد بنقد، عن طريق المضاربة في أسواق المال ليس إلاّ، لكن ذلك لا يمس القيمة الفعلية للنقد من قريب أو بعيد والتي يحددها فقط مبادلة النقد بالبضاعة .

المسألة الحدية في الاقتصاد السياسي والتي لم تطرح من قبل رغم أهميتها العظمى هي مسألة الدولار الأمريكي وهو الدولار الذي تعولم ولم يعد أمريكيا . صحيح أن أمريكا هي التي تطبع الدولار لكن هذا لا يعني شيئاً فمعظم الدول تطبع عملاتها في بلدان أجنبية الأمر الذي لا يضيف شيئاً لوظيفة أو قيمة عملتها . ما يعطي النقد قيمته وفاعليته أو دوره في حركة الاقتصاد الوطني هو قيمته التبادلية المتأتية من غطائه بالذهب والبضاعة . لكن أميركا من ضمن الدول الخمسة الأغنى (G 5) ألغت العلاقة التبادلية بين نقودها وبين البضاعة وباتت أميركا ليست المسؤولة عن مبادلة الدولار المعولم بالبضاعة . من يبادل الدولار بالبضاعة هو من يحدد القيمة التبادلية للدولار، ويأتي في المقام الأول في هذا المنحى الصين التي تبادل سنوياً بضائعها بترليونين أو أكثر من الدولارات وتحتفظ بقسم كبير منها في خزائنها لئلا تتدهور قيمة الدولار . لذلك يمكن اعتبار الدولار الأميركي عملة صينية وليست أمريكية فغطاء الدولار الحقيقي هو غطاء صيني وليس أمريكي . يطبع الدولار في أمريكا ويغطى من الصين، ولا أثر لأميركا فيه غير الطباعة . ولما كان للصين شركاء في تغطية الدولار منها النمور الأربعة وكذلك النفوط العربية فمن المناسب للبحث الموضوعي في الإقتصاديات القائمة فيما بعد انهيار النظام الرأسمالي اعتبار الدولار عملة لاقومية معولمة دولياً كما هو اليوم فعلياً . صحيح أن سلطة النقد الأميركية هي التي ما تزال تصدره وتطبع منه ما تشاء لكن عليها أن تأخذ الحذر في ذلك حيث من يحدد قيمته سلطة أجنبية هي الصين في المقام الأول . الطباعة لا أثر لها في قيمة الدولار التي يحددها قيمة بدل الدولار من البضاعة . البضاعة التي تحدد قيمة الدولار التبادلية هي صينية في المقام الأول . لكن لماذا الصين تحديداً؟
في العام 1966 وقد تأكد خروج القيادة السوفياتية عن النهج اللينيني الثوري الإشتراكي وانقطعت مساهمة الاتحاد السوفياتي في تطوير الإقتصاد الصيني أعلن ماوتسي تونج ثورة ثقافية تستهدف تطهير الحزب الشيوعي من عناصر تتشابه في القيادة مع المنحرف خروشتشوف، فكان من استحق لقب "خروشتشوف الصين" عضو المكتب السياسي دنغ هيساو بنغ ( Deng Xiaoping ) وتم طرده من الحزب . قبل نهاية الستينيات تأكد فشل الثورة الثقافية فعاد دنغ نفسه إلى قيادة الحزب . وأخيراً لاحت الفرصة لخروشتشوف الصين دنغ هيساو بنغ للخروج عن الخط الاشتراكي الماوي فكانت زيارة الرئيس الأميركي النادرة ريتشارد نيكسون للصين في العام 1972 مستهدفاً معالجة أزمة الدولار حيث ستغطي البضائع الصينية الدولار، ونقل الإنتاج البضاعي على الطريقة الرأسمالية إلى الصين وهي الاستراتيجية الأميركية في مقاومة الشيوعية في شرق آسيا . وهكذا كان اتفاق دنغ – نيكسون الذي انتهى ليكون الأساس للنظام العالمي اليوم . الصين تنتج البضائع على الطريقة الرأسمالية، ولكنها ليست رأسمالية في الجوهر حيث فضل القيمة يبلغ ضعفي أو ثلاثة أضعاف الأجور كما أن نقودها لا تدور دورة الإنتاج الرأسمالي، وأميركا تنجح في وقف تدهور الدولار .
بدأت الصين مبادلة بضائعها بدولارات حينما كانت قيمة الدولار الواحد تساوي 0.727 غرام لكن الدولار اليوم يساوي 0.023 غرام من الذهب، والفرق هو 0.704 غرام وهو ما يعني أن الدولارات في محفظة الصين اليوم وهي 5 ترليونات دولار خسرت بالمتوسط 0.352 غرام ذهب لكل دولار، وهو ما يجمع 1760 مليار غرام من الذهب ؛ ولما كانت قيمة الدولار اليوم هي فقط 0.023 غرام من الذهب فمجموع ما خسرته الصين في هذه التجارة يصل إلى 76.5 ترليون دولاراً من دولارات اليوم . ولما كانت ساعة/عمل العامل الصيني سعرها أقل من دولار، فالعمال الصينيون كدحوا 1760 مليار ساعة عمل دون أجر حتى تمكن حكام الصين من جمع 5 ترليون دولار في محفظتهم . ولتقريب الصورة في الأذهان نفترض أن عمر العامل في العمل يصل إلى 50 ألف ساعة/عمل فذلك يعني أن الحزب "الشيوعي" الصيني كما لو أنه أعدم 35200000 عاملا ، لا بل هو أعدمهم فعلاً . بول بوت لم يعدم من شعب كمبويا عشر هذا العدد ومع ذلك يشار إليه كمجرم ضد الإنسانية وقُيّض لكمبوديا فيتنام الشيوعية لتخلصها من شيوعية بول بوت فمن يخلص الصين والطبقة العاملة الصينية من شيوعية الحزب "الشيوعي" الصيني؟

ليس ثمة أدنى شك في أن الأسباب العميقة لهذه التجارة غير التجارية – بضائع مقابل دولارات متآكلة – إنما هي الهروب من الاستحقاق الإشتراكي وخاصة فيما يتعلق بالحزب "الشيوعي" الصيني، أما الأسباب على السطح فهي توفير غطاء حقيقي للدولار وهو ما كان الهدف الرئيسي لزيارة نيكسون وقد بات مؤخراً هدفاً رئيسياً للصين أيضاً . هذا الزواج غير الشرعي الذي ولد دولاراً معولماً لاقومياً تنحدر قيمته التبادلية دون توقف نحو الصفر مهما مارس الحزب "الشيوعي" الصيني من قمع وتضليل لمئات ملايين العمال في الصين، ومهما تدنى مستوى الإنفاق في أميركا . اتفقت الدول الخمس الأغنى في رامبوييه على حماية الدولار بعد أن كان قد عانى هبوطا حاداً لكن العقود الأربعة بعد رامبوييه أثبتت أن عهدة رامبوييه مضافاً إليها قدرة الصين البضاعية الهائلة وكذلك النفوط العربية لم تستطع وقف انحدار القيمة التبادلية للدولار نحو الصفر . إنحدر من قيمة 7 ديسيغرام من الذهب في العام 1975 إلى 2 سنتيغرام اليوم وسيصل في السنوات الخمسة القادمة إلى 2 ملليغرام وبعدها لن تستمر الصين بمبادلة بضائعها بدولارات لا قيمة لها كي تحفظ دماء عمالها في محفظة لا تحفظ ، ولن يعود الأمريكان قادرين على شد الأحزمة أكثر على بطونهم لئلا تنقطع . إذاك سينتهي الهروب من الاشتراكية إلى طريق مسدود وعلى البشرية عندئذٍ أن تختار إما الإشتراكية وإما الفناء.