يعلم كل متابع نزيه أن تأسيس الباجي قائد السبسي لحركة نداء تونس قبل خمس سنوات، كان من منطلق السعي إلى تجديد الحركة الدستورية، فنداء تونس لم يكن في نظر مؤسسه ومن ساهم معه إلا تجربة جديدة في إعادة بناء حزب الحركة الوطنية والإصلاحية بعد أن جرى حظر نسخته الماضية "التجمع الدستوري الديمقراطي" سنة 2011، أسابيع بعد نجاح الثورة التونسية، وقد نجح سي الباجي في مسعاه بينما فشلت جميع المحاولات الدستورية الأخرى، سواء التي سبقت نشأة النداء أو تلتها، لكن لسائل أن يسأل لماذا نجح الباجي قائد السبسي في تجربته التجديدية بينما فشل غيره؟ 
يكمن الجواب على هذا السؤال برأيي في أمرين أساسيين، أوّلهما أن مؤسس حركة نداء تونس كان يتوفر قياسا بسواه من مؤسسي وقادة التجارب الحزبية الدستورية، على مصداقية أكبر وشرعية تاريخية وسياسية أقوى، فهو الرجل الذي تتلمذ مباشرة على يد الزعيم الحبيب بورقيبة وكان من النخبة الدستورية الأولى التي طالبته بالإصلاح السياسي مطلع السبعينيات، وهو الشخصية الدستورية التي انسحبت مبكرا من التجربة التجمعية إثر ظهور علامات الانحراف عليها مطلع التسعينيات، فضلا عن كونه الرجل الذي أمّن البلاد والثورة في أكثر لحظات تاريخها دقة وحرجاً، أي سنة 2011، عندما قادها من الاضطراب الى الاستقرار، وإلى أول انتخابات حرة وديمقراطية في تاريخها ثم سلّم السلطة للفائزين بها بكل تحضر ورقي وفِي ممارسة نادرة للحكم في المجال العربي الإسلامي.
أمّا الأمر الثاني، فهو المحتوى الفكري والسياسي الذي منحه رئيس حركة نداء تونس المؤسس لعملية إعادة بناء الحركة الدستورية وتجديدها، سواء من حيث الشكل من خلال اختيار اسم جديد توخّى عدم الاستغلال الفجّ للتراث الدستوري الوطني الإصلاحي، أو من حيث المضمون أين اختار الباجي قائد السبسي الجمع بين الحفاظ على منجزات العقود الماضية وعدم تكرار أخطاء الماضي، فاستنّ بذلك ل"الدساترة" طريقا وسطا لا يكونون فيه "تبّعا" للقوى الصاعدة منبطحين لها تحت وطأة الشعور بإثم الأنظمة السابقة، ولا يعودون من خلاله إلى خطاب الاستعلاء والاستئصال والإقصاء، مخالفا بهذا المسلك هؤلاء الذين يطرحون اليوم أنفسهم أوصياء على التراث الدستوري وناطقين منفردين باسمها ومنقذين للعائلة الدستورية من الذل والهوان كما يزعمون، مرددّين خطابا فاشيا ثبت فشله الذريع وكاد في لحظة سابقة أن يتسبب في خراب البيت الوطني ومكتسبات سنين من الجهاد الأكبر.
إن طريق الاعتدال الذي أَسّس له مؤسس حركة نداء تونس، وخيار التوافق السياسي والمصالحة الوطنية، هو الطريق الصعب قياسا بخيارات التطرف والفاشية التي يعمل البعض من خلالها على تحصيل بعض المكاسب المؤقتة على حساب مصالح الوطن العليا، وقد أدرك غالبية أبناء العائلية الدستورية صواب الخيارات الندائية قياسا بغيرها، من منطلق وعيهم بأن نداء تونس ومؤسسه لم يرغب يوما في توظيف المظلمة التي سلطت عليهم في السنوات الثلاث الأولى لما بعد الثورة، وتقديرهم أن خطاب الإقصاء وممارسته جرّب فثبت اعتلاله، وأن الطريق القويم يقتضي تبني خطاب الاحتواء والاستيعاب خصوصا في إدارة ملف العلاقة مع الإسلاميين. 
لقد نجح الباجي قائد السبسي في تجديد الفكر الدستوري والممارسة السياسية الدستورية، لأنه اختار معالجة مجدّدة تجعل "الدساترة" في مقدمة عملية بناء النظام الديمقراطي، بعد أن كانوا في مقدمة عملية تحرير الوطن من المستعمر، وفِي مقدمة عملية بناء الدولة الوطنية المستقلّة، وقد أثبت التاريخ أن الانتصار كان دائما وفِي نهاية كل أمرٍ من نصيب دعاة الإصلاح والتجديد، لا دعاة الفاشية والتطرف وضرب خيارات بلادنا الاستراتيجية داخليا وخارجيا و من أهمها عدم الانجراف وراء حرب المحاور الإقليمية والدولية كما يفعل اليوم بعض من يزعمون النقاء الدستوري وهم في منتهى ضعف الوعي وضيق الأفق، حتى لا أقول الانتهازية الفئوية المقيتة التي عادة ما ترفع شعارات الحق وهي تريد بها السوء والباطل.
* وزير تونسي سابق، مدير مركز نداء تونس للدراسات