للخليج قادة تحميه، وشعوب تدرك كيف تحتويه، لا يحتاجون تدخلات خارجية ولا وساطات أجنبية هي أشبه باقتناص الفرصة المواتية، واستغلال الشقاق بين الأشقاء، لكي يحققوا ما لا تراه الأعين، فإن لهم مآرب أخرى، خاصة هذا الرئيس الأمريكي الذي ينفث في العقدة الخليجية بكل ما يستطيع من حقد دفين وبغض مكشوف، وبكل ما أوتي من قوة، وهي قوة غشيمة وغاشمة بلا شك.

لن يحل أزمة المشهد الراهن في دول الخليج الأربع إلا شخصيتان اثنتان فقط من قادته يتسمان دائما بالعقلانية في الرأي والرؤية، ويتمايزان بالدبلوماسية الهادئة بعيدا عن صخب الغضب اللفظي، وهو السائد الآن بضراوة في الساحة بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية.

فأما الشخصية الأولى.. فهو السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان، حيث تتجلى الحكمة والحنكة في التعامل مع الأحداث والحوادث، والتحاور بلغة الأعماق البعيدة مع الأزمات والمتغيرات، وكم من أزمة كادت أن تعصف بالمنطقة، وبقي الخليج وتبخرت العاصفة، واكتشف العالم أن عمان كان لها الدور الخلاق وراء الستار.

ثمة شواهد ومشاهد تؤكد ما أشير إليه.. انطلاقا من المبدأ العماني:«إن السلام مذهب آمنا به، ومطلب نسعى إلى تحقيقه دون تفريط أو إفراط» إذ يمثل البعد القومي أحد الأبعاد الأساسية في استراتيجية الخطاب السياسي العماني، باعتبار أن هذا البعد أحد القوى الإيجابية في العلاقات الدولية، وفي الشأن الخليجي تحتفظ المفكرة الخليجية بأن النواة الأولي لمشروع مجلس التعاون بين دول الخليج، بدأت من فكر السلطان قابوس في عام 1971 رغم الظروف الحرجة آنذاك، إذ أكد أنه«لا يمكن الحفاظ على الأمن الشامل والحرية لجميع شعوب الخليج إلا عن طريق التعاون الوثيق بين دول المنطقة وأن هذا الأمن الشامل لا يهمها فحسب، بل المنطقة بأسرها وهو أيضا مسئولية العالم الحر مباشرة وإذا لم يعترف العالم الحر بهذه الحقيقة فإن هناك احتمالا بأن الموارد الرئيسية للبترول تحت سيطرة قوى معادية».

ويعتقد السلطان قابوس أيضا أن الخطر في الخليج ليس خارجيا بقدر ما هو خطر نابع من الداخل:«يكمن في محاولة زعزعة استقراره من الداخل بتصدير الارهاب الى داخل دوله، إن محاولة تقويض الأمن الداخلي لدول الخليج ربما يكون الهدف الأكثر توقعا خصوصا، وان تقويض الأمن الداخلي يمكن أن يفتح الباب على مصراعيه لعوامل التدخل الخارجي، انني اعتقد ان ذلك هو مكمن الخطر الأول».

ومنذ تحرك الدبلوماسية العمانية ابتداء من هذا التاريخ، والمواقف العمانية الكبرى والمؤثرة، تترجم هذا المنظور السياسي الخارجي بشكل أو بآخر، وحسب مقتضيات السياق الاقليمي والدولي، كفاعل سياسي مهم في منطقة الخليج العربي، يعي الخطاب العماني السياسي وعيا واسعا استراتيجية منطقة الخليج، ويدرك بعمق كيف أن هذه المنطقة تستقطب قوى الصراع العالمي دائما، بل يتخذ موقفا موضوعيا إذ «لم يعد يخفى على أحد أن الجزيرة العربية بما فيها الخليج.. في كل بقعة منها أكثر من ثروة، ولعل في مقدمتها البترول كما تعلم، لا جدال أن هذه الأرض المليئة بالخير تصبح مطمعا، إن هذه الثروات تفتح شهية الآخرين، أينما كانوا شرقا أو غربا، ولعلك تستطيع أن تلمس ذلك في المنافسة التي تقوم بين الشركات، ولا شك أن دول هذه الشركات تقف وراءها، بل أكثر من ذلك فإن البعض يحاول أن يتبع أساليب تفتيت الوحدة الوطنية من أجل مآربهم في خيراتنا».

والسلطان قابوس هو أكثر الزعماء الخليجيين خاصة والعرب عموما، حرصا على أمن منطقة الخليج، فيؤكد دائما أن «أمن الخليج مسئولية الجميع، مع تحمل كل دولة لمسئوليتها» وأنه «في عصر الصواريخ والتكنولوجيا الحديثة لم يعد يوجد في الواقع ما يسمى مناطق أمنية». 

وما من مناسبة محلية أو إقليمية أو عالمية إلا ويشيد فيها الخطاب السطاني بالتعاون بين دول الخليج دورا ووظيفة، ودولا وشعوبا، فالعلاقات التي تربط بين دوله علاقات أخوية متينة، ولقد شهدت هذه العلاقات، تطورا ووثوقا نتيجة للتفاهم المتبادل والسياسات الحكيمة المتزنة التي تنتجها القيادات الواعية في بلداننا مما أدى الى إذابة الخلافات المترتبة بين دولنا وإحلال الثقة والتعاون والتنسيق المشترك لخدمة قضايا ومصالح المنطقة بأسرها. 

والدور العماني في وقف الحرب العراقيةـ الايرانية في عقد الثمانينيات دليل على مصداقية الخطاب في هذا الشأن، ثم الموقف العماني من حرب الخليج الثانية ( غزو العراق للكويت) كان جليا ولا يخفى على أحد، وهواموقف نابع من تصوره إذ يعتبر «أن الشيء الوحيد المجدي والكافي لعدم تدخل القوى الأجنبية، هو عدم اعطائهم الأعذار، بمعنى لاتخلق مشكلة أو تخلق حاجة أو حادثا من الأحداث التي تعطيهم العذر للتدخل». 

وذات مرة وجه أحد رجال الدبلوماسية، سؤالا إلى جلالة السلطان قابوس حول مسألة الحدود ودول الجوار، فأجابه:«إن الجار لا تختاره الدولة، حيث يكون مفروضا عليها، ولذلك لابد من التعايش معه حتى ولو في الحد الأدنى، وعمان أخذت بمبدأ «اكسب جارك ليكون سندا لك في استقرارك بدلا من أن يكون عدوا لك» هذه الرؤية ظلت نبراسا لحل إشكالية ترسيم الحدود بين السلطنة وجاراتها، التي استغرقت عشرين عاما من الدراسات والمفاوضات والحوارات والخرائط، وهي الإشكالية التي لا تزال عالقة بين العديد من دول العالم خاصة في دول منطقة الشرق الأوسط والعالم الثالث عامة، نتيجة الحالة الاستعمارية التي غشيت دولها طويلا.

والموقف العماني من أزمة اليمن في التسعينيات، وفي المشهد الراهن الدامي، له بصماته الإيجابية والتي لولاها لكان للمنطقة شأن أخر أكثر دموية ودرامية..
وهناك أمثلة يصعب حصرها في هذا السياق، وكلها تكد أن السياسة الخارجية العمانية تحافظ بشدة على دورها الحيادي السلمي البعيد عن أي انفعالات غير محسوبة ومغامرات غير مدروسة بل، وسعيها الدائم لتحقيق الاستقرار والسلم في المنطقة وهو نهج راسخ قابل للاستمرار لعقود طويلة مقبلة في إطار رؤية استراتيجية واضحة المعالم.
.............
وأما الشخصية الثانية القادرة على حل الأزمة الخليجية فهي محور المقال المقبل.