بطاقة معرفية خلاقة حذف حدود الدرس الأكاديمي ومضى حرا إلى معرفة واسعة حيَّرت تأويل الآخرين، فأضحت الغرابة فيها ممزوجة بدهشتهم، فيما كان لا يبالي بـالمفارقات التي تعكسها في الواقع الجاري (الآن وهنا)، لأنه عرف أن الآخرين سيعرفون ما جازه باكراً، في الأفق الأخير من المعرفة!

ولما كان باستمرار يرى ما لا يراه الآخرون؛ أبصر محمد أبو القاسم حاج حمد في تحولاته الفكرية والسياسية مجازا قلقا ومختلفا لأفق الحقيقة، حقيقة الثورة، الفكر، وحقيقة الاختلاف في وقت مبكر جدا. فقد كان يرى ليختبر، ثم ليعرف، ثم ليعمل، وحيدا ومغتربا، بما عرف في دروب الفكر والنضال.

كونية الإسلام في الأزمنة الحديثة، الجدار الأخير لمادية الفكر الأوربي، انسداد مستقبل النخبة السودانية، مأزق الإسلام السياسي، والهوية الغائبة للقرن الأفريقي. كانت تلك العناوين الفكرية التي اشتغل عليها أبو القاسم حاج حمد في الربع الأخير من القرن العشرين مزيجا أعقد بكثير من مناخ ثقافوي سدت عليه الايدلوجيا المتمانعة في السودان إمكانية الفهم1. فمناخ الاستقطاب الايدلوجي حينها في السودان الذي كان ينمذج للنخبة مثالات مأزومة للنضال والوعي تعِّرف الواقع بهوية الايدلوجيا ؛ عجزت معه تلك النخبة عن اجتراح مقاربة معرفية مستقلة لرؤية الحقيقة في الواقع والنضال خارج مثالات تلك النمذجة العالمية والاقليمية ليمينها ويسارها، فيما كان حاج حمد يختبر معرفة مستقلة بالحقيقية والواقع ؛ فأدرك، مثلا، على نحو فردي، خاص وعميق، جدوى قراره المبكر بالانخراط في الثورة الإرترية2، بعيدا عن السرديات الشعبوية المتبادلة والمانعة من رؤية الحقيقة والواقع حيال ثورة إرتريا وشعبها.

بين انسدادين اثنين كان أبو القاسم حاج حمد يعرف أن اغترابه معرفة، ومعرفته غربه ؛ فبدت غرابة المواقف والخيارات، التي أقدم عليها كجزء من قناعاته، محيرة للآخرين ممن ظل موقنا بأنهم سيعرفونها في نهاية أفق المعرفة.

فمن ناحية، كان حاج حمد وفيا لنتائج معرفة قادته لعلاقة منهجية مختلفة بالقرآن الكريم. وهي معرفة أدركها حاج حمد من داخل القلق الوجودي لذاته كفرد في الأزمنة الحديثة، ومن عمق القضايا الفلسفية المعاصرة، ومن ناحية ثانية كان عليه أن يترجم هذه المعرفة المختلفة إلى مواقف وتجارب بدت "غريبة " في مسيرته

المتعددة الوجهة والمكان ؛ الأمر الذي شكل في كل من هذين الانسدادين استعصاء عتيدا لمن حاول أن يعرَّف حاج حمد بقالب تفسيري مؤدلج!

لم يكن اختبار خيارات المعرفة سهلا، لا بالنسبة له، ولا بالنسبة لمناخ الأيدولوجيات المتمانعة في السودان والمنطقة العربية، لكنه في الوقت نفسه، كان لابد أن يكون وفيا لنهايات معرفته المغتربة تلك ونتائج فكره المختلف. هكذا كانت الأطروحات الفلسفية الرصينة والمتماسكة التي خرج بها على الناس بين عامي 1979 و 1980م سواء في كتابه (العالمية الإسلامية الثانية) أو كتابه (السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل) تغرد خارج سرب أطروحات زمن آيدلوجي لأفكار مأزومة وتصورات مجزوءة عجزت عن اختبار وتفكيك واقع تاريخي صلب و تحديات حداثة كونية جارفة.

كما لم يكن في تسخين تلك المعرفة الخاصة ما يوحي اقترانا شرطيا بين مواقفه حيال الواقع الجاري (الآن وهنا) وبين الآفاق الاستراتيجية لنتائج تلك المعرفة. وهذا في تقديرنا هو ما شكل علامات استفهام كثيرة للآخرين حيال مواقف حاج حمد في تشابكات واقع معقد ؛ فتلك المعرفة التي حسبها البعض، واهما، معرفةً باردة وغير منعكسة على مواقفه ؛ كانت هي الوجه الآخر لعبقريته التي استبطنت إدراكا عميقا للفصل بين معرفة فلسفية رصينة لم يحن أوان تجريبها في الواقع (الآن وهنا) وبين مواقف تبدو في الواقع غير متطابقة في ذهنية الكثيرين ممن اعتبروا مسار حاج حمد ومواقفه كما لو أنها ليست تعبيرا عن قناعاته.

هكذا بدا أبو القاسم حاج حمد "علمانيا جديدا" بالنسبة للإسلاموين من أتباع حسن الترابي كما كتب عنه أمين حسن عمر مقالا في العام 1985، فيما أدرجه المحبوب عبد السلام ضمن " المثقفين الرُّحَل" المأزومين والتائهين بين الثقافات ؛ دون أي اكتراث، منهما على الأقل، لقراءة الملاحظات الفلسفية المتماسكة و المبكرة للرجل وقدراته الفذة على رؤية تحولات مستقبلية متأخرة للفكر والواقع عالميا، في زمن متقدم، وقدرته على انتاج مفاهيم معرفية متماسكة للمبادئ التفسيرية التي كان يختبر بها الفكر والواقع. كان هذا الحفر المعرفي لأبي القاسم حاج حمد أكبر من ان يستوعبه زمن آيدلوجي رث علقت فيه النخب السودانية.

تفكيك الحداثة

كان الاشتغال على تفكيك الحداثة،أي على نقد الجذور المادية للفكر الأوربي الحاكم لمبادئ الحداثة وكشف تناقضاته العاجزة عن تركيب سوية معرفية وأخلاقية تحكم حياة الناس بالعدل في هذا العالم، جزءأً من الاشتغال على الذات ؛ فرهانات

المعرفة المادية وانسدادتها التي مثلت الماركسية حلقتها الأخيرة في زمانه (نهاية السبعينات الميلادية) حفزت لديه مقاربات منهجية جَسورة تحدوها رغبة في خلاص ذاتي عبر المعرفة، مهما كانت نتائجها، ودون أي اكتراث لغرابة تلك النتائج، حتى إذا بدت للبعض غريبة لا بفعل حجاجها المنطقي و خطابها المعرفي، بل بفعل مقولات خطابية عشوائية عن جدوى ملائمة تلك النتائج لروح العصر مثلا! والمفارقة هنا أن الاستنتاج المعرفي العميق الذي صدر عنه حاج حمد في إدراك معنى خطاب الإسلام هو تحديدا ما جعله يتنبأ بالمأزق الأصولي للإسلام السياسي وقوته التدميرية للمجتمعات(وهو ما حدث بعد ذلك بسنوات) وهو أيضا ما جعله يشتغل على فهم تحديات الواقع السوداني والعربي والافريقي وفق مقاربات زمنية محايثة وراهنة، بعيدا عن وهم الايدلوجيا الإسلاموية وغير الإسلامية وغيرها من الأيدولوجيات.

لقد كان تفكيك استعصاء الحداثة بالنسبة لحاج حمد تسكينا للتناقضات التي طالما عصفت بروحه وفكره حتى ألهمه القرآن وعياً مركباً وعميقا اطمئن لقوته المعيارية لكنه لم يراهن به في تسويق الايدلوجيا الاسلاموية المغتربة عن الواقع والمتعالية عليه على نحو كارثي.

كونفدرالية القرن الأفريقي

منذ ارتباط محمد أبو القاسم حاج حمد بالثورة الإرترية في وقت مبكر، طور أفكاراً عن كونفدرالية القرن الأفريقي وجعل الانهمام بمستقبل القرن الأفريقي في صلب التفكير المعرفي لطبيعة العلاقة بين دوله. ولم يطور حاج حمد تلك الأفكار عن القرن الأفريقي من ذهنية انعزالية نابذة للحضور العربي، بشكل أو آخر، في دول القرن مثلا، كما لم تتأتي أفكاره تلك من ردود فعل تجاذبات الهوية المنقسمة والمتوترة بين العروبة والافريقانية في السودان. لقد كانت رؤية حاج حمد لكونفدرالية القرن الأفريقي نابعة من إدراكه العميق للخصائص الجيوبولتيكية المتصلة في الأساس بهويات تأسيسية متشابهة لبلدانه من حيث الوجود التاريخي الحديث وأطوار نشأة التكوين الأممي، والحيوات المحايثة لبناه الثقافية ووحداته الاجتماعية، ساعدته في ذلك أصول معرفة جسورة كانت تتجلى أفكارها الاستراتيجية في مثل هذه المقاربات. فلم يكن في وراد ذهن محمد أبو القاسم حاج حمد وبالأساس انطلاقا من رؤيته العميقة لخطاب القرآن الكوني، أي اكتراث أو خوف لما قد تشكله التباينات الدينية والعرقية واللغوية لمجموعات القرن الأفريقي، فهو يعرف أن الكونفدرالية نظام ينعقد بالأساس عبر استعدادات وخيارات بشرية حرة ومستقلة يأخذ عنصر الوعي فيها زمام المبادرة التي تعكس قدرة على رؤية

الإمساك بالمصير السياسي لشعوب القرن الأفريقي. كما أن أبو القاسم حاج حمد كان من القلائل الذين يعرفون حقيقة التصنيف السياسي للسودان في مراكز الأبحاث والجامعات الأمريكية ضمن مجموعة القرن الأفريقي لا المنطقة العربية. ولقد كان حاج حمد يذيل مقالاته الطويلة في صحيفة الحياة اللندنية خلال التسعينات وأوائل الألفية معرفا نفسه بأنه كاتب من القرن الأفريقي.

حياة راحلة

الظروف السياسية التي أجبرت حاج حمد على مغادرة السودان في السبعينات من القرن الماضي شكلت فيه بصمة لهوية الترحال المتنقل حيث غاب حاج حمد عن السودان سنوات طويلة بين لبنان والخليج والولايات المتحدة ؛ لكن النبوءات التي أحالت إليها أفكاره الرصينة كنتائج للمعرفة (لاسيما في كتابيه: العالمية الإسلامية الثانية، و السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل الذين أصدرهما تباعا في العام 1979 و العام 1980) كانت تتكشف تباعا مع صيرورات الواقع واكراهاته: انهيار المعسكر الاشتراكي، انقسام السودان، انسداد أفق النخبة السودانية والعجز عن تدبير بنيات فكر وطني يعصم السودان من تجارب الأيدولوجيات الفاشلة (أخرها ايدلوجيا الإسلام السياسي)، فشل المعارضة السودانية في الإطاحة بنظام الإنقاذ، انفجار تناقضات الإسلام السياسي وغيرها. ونتيجة لهذا الترحال أصبح محمد أبو القاسم حاج حمد معروفا كمفكر استراتيجي منتج للمفاهيم خارج السودان أكثر منه في السودان، بل أحيانا كان له تلاميذ خارج جغرافيا الدول العربية (منطقة عرب 48) وفي أقاصيها (المغرب العربي)

بين الصدور عن كليات معرفة استراتيجية بالفكر والواقع، وتمثل تفاصيل ذلك الواقع في تحولاته السائلة عبر خيط رفيع لا يرى بين أصول المعرفة الثابتة ومواقف الواقع المتحركة، كان أبو القاسم حاج حمد يختبر عبرةً أخيرة في نهاية المآل لتفسير مواقفه.

حاجتنا اليوم الى استعادة حاج حمد

استعادة حاج حمد لا تعني غيابه بقدر ما تعني التذكير بإنتاج الرجل، ففكره اليوم ربما كان أكثر حضورا من الأمس ؛ فاليوم على الأقل هناك من المفكرين العرب الكبار من تصالح مع ما كان يحسبه تراثا منقطعا نتيجة لتحولات الواقع واكراهاته لكننا نحن أبناء القرن الأفريقي (قرن الأوبئة والحروب) ربما كنا أكثر حاجة الى استعادة أفكاره الرائدة ورؤاه العميقة.

حاجة بعضنا، مثلا، إلى تمثل قطيعة مطمئنة مع الإسلام السياسي وتبيان تناقضه الأصلي مع قيم القرآن ذاتها، مقاربتنا لرؤية الآخر الحميم في الدين والوطن وتصفيتها بجسارة من أوهام ورهاب آيدلوجيا التدين العقيم، والخوف التقليدي الغامض ؛ ثقتنا بالحيثيات الصلبة لكونفدرالية القرن الأفريقي، استعادة الشغف بالتحديق في ذاوتنا المركبة، تفكيك معيقات وهم التناقض الذهني بين المكونات المشكلة لهوياتنا عربيةً كانت أم أفريقية، تجديد النقد الصارم للتاريخ الوطني والذاكرة. وغيرها من الأطروحات التي تطرق اليها محمد أبو القاسم حاج حمد.

ـــــــــ

1 يمكن القول أن الأستاذ محمود محمد طه بأفكاره المختلفة كان استثناء آخر في السودان ولطالما التبس على البعض التشابه بين أطروحة حاج حمد المركزية (العالمية الإسلامية الثانية) وأطروحة الأستاذ محمود حول (الرسالة الثانية من الإسلام)

2 عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني هو أول من زود الأستاذ المناضل الإرتري / السوداني محمد سعيد ناود بالسلاح حين قرر الأخير التفرغ للنضال في ارتريا عبر تأسيس حركة تحرير ارتريا في العام 1958 كما ذكر ذلك ناود في كتابه (حركة تحرير ارتريا الحقيقة والتاريخ) لكننا يمكن القول أن تلك التجربة كانت تجربة من داخل الجماعة الحزبية من ناحية و في مناخ مقاومة الاستعمار التي انتظمت العالم الثالث من ناحية ثانية. ولم تكن خيارا فرديا مستقلا كما كانت تجربة حاج حمد.