منذ قيام "الدولة الاسلامية" الأولى ، كانت الأقليات، الدينية والعرقية، تُستغل من قبل الحكام في مسالة التوازنات والصراعات السياسية والعسكرية. حين بدأت تتهاوى "الدولة الأموية" تحت ضغط تصاعد قوة العباسيين بدعم ومساندة من الفرس ، سارع الخلفاء الأمويين الى الاستعانة بالأقليات وزجهم في الصراع، دفاعاً عن دولتهم المهددة بالسقوط . استغلال الأقليات ، بات قاعدة ثابتة معتمدة في النزاعات الداخلية والصراع على السلطة في مختلف الدول العربية والاسلامية الحديثة. في سوريا ، ما أن تفجرت الأزمة الراهنة ، حتى سارع كل من النظام والمعارضات الى كسب واستمالة الاقليات الى جانبه في الحرب الدائرة ، ناهيك عن أن الطرفان استعانا بـ "ميليشيات طائفية/مذهبية" محلية وأخرى مستوردة من خارج الحدود. الحرب السورية، بأبعادها الطائفية والمذهبية والعرقية، لم تُسقط فقط قتلى وجرحى ، بل أسقطت الأقنعة عن وجوه الكثير من السوريين، معارضات وموالاة، توافقوا على تخوين وإدانة ناشطين سوريين شاركوا في "اللقاء التشاوري" الذي جرى مؤخراً في استنبول التركية، بعيداً عن وصاية وهيمنة المعارضات، خُصص لمناقشة مستقبل "المكونات السورية" الصغيرة في سوريا الجديدة، المنتظر ولادتها من رحم الحرب . أن يقوم النظام بتخوين السوريين الخارجين عن طاعته ، أمر مألوف تعودنا عليه. هو هكذا منذ انقلابه على السلطة وخطفه للدولة. لكن المثير في المشهد السوري المضطرب، تماهي موقف "المعارضات الثورية" مع موقف النظام من قضية الاقليات.نزعة التهميش واللامساواة، التي يُزعم تجاوزها، مازالت هي السائدة فيالمنهج السياسي للمعارضات، كما الموالاة. حقوق الاقليات موضوع إنكار منقبل الاكثريات . سقف " ثورة " هذه المعارضات ، لا يتعدى إزاحة بشار الأسدعن كرسي السلطة وجلوس أحد المعارضين مكانه، أي استبدال دكتاتور بدكتاتور آخر . اما الحديث عن الديمقراطية ودولة المواطنة ودستور وطني يضمن حقوق الاقليات، يكفل مشاركتها في تقرير مصير سوريا، هو لتضليل الراي العام المحلي والخارجي. باسم الوطن والوطنية السورية، المعارضات خونت سوريين لمجرد خرجوهم عن طاعتها في قضية الاقليات . في حين أن هذه المعارضات مارست وتمارس أبشع الأعمال الطائفية وهي تخفي أجندات مذهبية وعرقية الأكثر خطراً على المستقبل السياسي للدولة السورية. " المعارضون الثوريون الوطنيون" لم يكتشفوا خطر كل هذا (السلاح الطائفي)الفتاك، الذي ينهش بجسد الوطن السوري منذ ست سنوات وأكثر، لكنهم فجأة وجدوا في تلاقي بعض ابناء الاقليات السورية، خطراً على وحدة الدولة السورية. الى تاريخيه ، لم نسمع معارضاً أو موالياً يحتج على المواد والفقرات الطائفية والعنصرية الموجودة في الدستور السوري ، تلك التي تنتقص من حقوق المواطنة ومن المكانة الوطنية للمسيحيين ، الأقوام السورية الأصيلة . لكن ، ما أن تطرح حقوق الاشوريين والمسيحيين والأكراد وبقية المكونات السورية ، التي عانت وتعاني التهميش والاقصاء والابعاد ، حتى تثور "الغيرة الوطنية" لدى الغالبية العربية الاسلامية. جاهلين أو متجاهلين،بان رفض الأغلبية العددية ،الانتقال بسوريا الى "دولة المواطنة الكاملة" واصرارها على إلغاء وطمس هويات وثقافات السوريين من غير العرب، أوجدت"معضلة الأقليات" في البلاد ،التي ابرزتها الحرب كإحدى القضايا الوطنية الملحة، التي تتطلب حلاً "وطنياً عادلاً". كم تبدو الأغلبية العددية واهمة بسعيها لإعادة "ملف الأقليات" الى نقطة الصفر ، أي الى ما قبل 15 آذار 2011. من السذاجة أن تنتظر الأغلبية من الأقلية ،مهما كانت صغيرة، أنتتخلى عن هويتها الخاصة وتقبل بهوية الأغلبية، مهما بلغت هذه الاغلبية من القوة البشرية أو العسكرية . كفاح الاقليات ضد الاستبعاد والاستبداد وفتحها معركة سياسية من أجل الهوية، هو مسعى منها للاندماج بالمجتمع السوري وإقامة دولة المواطنة الكاملة لكل ابنائها دون تمييز أو تفضيل، وليس للمواجهة مع الاغلبية العربية الاسلامية ، كما يظن ويعتقد ساسة الاكثرية العددية.

أخيراً: الأقليات هي صاحبة المصلحة الحقيقية في الحفاظ على وحدة واستقرار الدولة السورية. شوفينية النظام العروبي وعنصرية المعارضات،يجب أن لا تدفع الاقليات للتطرف والمبالغة في مطالبها وتطلعاتها القومية والسياسية . على المكونات السورية الصغيرة، أن لا تعطي للأكثرية العددية ،الذريعة التي تبحث عنها وتنتظرها للنيل منها والبطش بها من جديد .

باحث سوري مهتم بقضايا الاقليات.