هناك تخوف لدى النخب السورية من تقسيم سوريا. وهو قلق حقيقي له ما يبرره بعد أن أصبحت سوريا ساحة لكل اللاعبين الدوليين والإقليمين، وكل لاعب صارت له مناطق نفوذ سائلة غير محددة جغرفياً بشكل دقيق. لذلك تجد الأدبيات السورية بعد الثورة سواءاً الوثائق البينية – أي بين السوريين- أو الدولية تنص على وحدة سوريا بشكل مبالغ فيه بعض الأحيان. كما أن التهمة الإنفصالية أصبحت رائجة بشكل مجاني لكل من يحاول التفكير بإيجاد مخرج للوضع الراهن في سوريا أو حتى ترتيب مستقبل سوريا بموجب إعادة هيكلتها إلى أقاليم هي بالأصل مشكلة جغرافياً وديموغرافياً في غالبها. 

منذ نشأة الدولة السورية الحديثة تبنت سوريا دستوريا الدولة المركزية، التي تمركز كل صلاحيات الحكم والإدارة في العاصمة وتعطي صلاحيات هامشية للإدرات المحلية مهما كان تسميتها. وبغض النظر عن النظام الشمولي الذي ساد سوريا منذ حكم البعث الذي تحول لنظام أسدي تحكم بكل تفاصيل سوريا تحت سيطرة القوى الأمنية، فإني أرى أن الدولة المركزية هي قاعدة أساسية لإنتاج الإستبداد. 

هيكلية الدول المركزية تعطي السلطة الحاكمة في العاصمة، أيّاً كانت هذه السلطة وأيّاً كانت طبيعتها (من الملائكة أو الشياطين) قدرة على التحكم الكلي بالوحدات الإدارية ويعطيها قدرة فائقة على فرض سيطرتها حتى على تعيين مدير مدرسة إبتدائية في قرية نائية. قدرة التحكم هذه وبمعزل عن التحكم الأمني تعطي سلطة العاصمة قدرة على عزل الناسفي الأقاليم عن تقرير مصائرهم واختيار حيواتهم وممثليهم وإنتاج زعاماتهم. وقد يجادل البعض أن الخلل يكمن في النظام الشمولي الذي سحق الناس وحولهم جميعاً إلى مجرد براغي في آلة السلطة الشاملة التي حولت البلاد جميعها لمزرعة شخصية. هذا صحيح في الوقت الراهن؛ لكن مركزية سوريا المنصوص عليها دستوريا مع بعض الصلاحيات للإدارات المحلية التي في الغالب لايعمل بها، يجعل من البلاد رهينة لمشيئة السلطة في دمشق حتى لو كانت سلطة ديموقراطية. 

إن التصور العام لسوريا موحدة ومركزية هو تصور إيديولوجي منبته شعارات حزب البعث التي لا تنادي بتوحيد البلد تحت سلطة مركزية قوية فقط، بل تنادي بتوحيد كل الدول العربية تحت هذه السلطة لمواجهة الأعداء الذين ثبت بالنتيجة أنهم الشعب ولاعدو آخر غيره. وهذا منبع الإصرار على سحق وإبادة الهويات الفرعية في الدولة السورية تحت دعاوى الهوية العربية السورية القومية البعثية الموحدة. حتى أنه في السجلات الرسمية ولكل سكان سورية بما فيهم الأكراد والآشوريين والأرمن والسريان والشيشان والشركس.. يجب أن يكتبوا في خانة الجنسية "ع. س" وتعني عربي سوري!. علماً أن سوريا لا تمتلك هويّة مُعطاة موحدة ليس فقط لسكانها من غير العرب بل للعرب أنفسهم وهذه ليست نقيصة بقدر ماهي مصدر تنوع وثراء. كما أن الدولة الحديثة لم تنتج هوية وطنية رئيسية تندرج تحتها الهويات الفرعية، سوى هويّة "سوريا الأسد" وهي هوية فاشية مركبة تحت ظلال السيوف. 

إضافة لذلك فإن النخب السورية "بما فيها الكردية" تولي أهمية قصوى لمفهوم الوطن ومفهوم تراب الوطن والحيز الجغرافي للوطن بشكل يتقدم بمئات الآميال عن مفهوم السكان. أي البشر الذين يعيشون على هذا التراب ومصالحهم وحياتهم وآمالهم. وتجعل عقيدة الحفاظ على تراب الوطن؛ ويندرج ضمنها تراب الوطن المأمول لدى النخب الكردية، بمنزلة المقدس حتى لو أبيد جميع سكان هذا التراب! ومن الواضح أن هذه العقيدة لا تتجاهل حقوق الناس فحسب، بل تتجاهل المنجز البشري في التفكير! إنه تفكير زراعي-إقطاعي يتعامل مع الأرض كملكية ومع السكان كعبيد مرتبطين بالإرض لاوجود لهم خارج سياق الملكية أيّا كان المالك. 

ليس فقط السلطة السورية منذ الإستقلال حتى الآن هي ما يثبت فشل النظام المركزي لسوريا، بل حتى مسار المعارضة التي تشكلت مركزياً لتمثل عموم الوطن. فالكيانات التمثيلية المنبثقة عنها أنتجت هياكل تمثيلية أسوأ مما لدى النظام وأتاحت لبعض المتنفذين كمعادل للسلطة الشمولية وبأموال إقليمية أن ينتجوا هياكل مركزية تدعي تمثيل عموم الوطن، عبأتها على عجل من كل المحافظات وعبر محاصصات عزل عنها السكان، بأشخاص لايمثلون أحداً لا على الأرض ولا في الفضاء. بل إن شخصاً في قيادات المعارضة في المجلس الوطني السوري إبّان تصديه للحصول على التمثيل الشرعي للسوريين قال لأحد منتقديه "إذا كنت قد انتخبتنا تعال حاسبنا". هذا مثال واضح على الآلية التي يتيحها النظام المركزي لصعود ممثلين لم ينتخبهم أحد ولا يمثلون أحد. 

إن سوريا ماقبل الدولة الحديثة مقسمة جغرافيا وديموغرافياً إلى وحدات متجانسة أو شبه متجانسة، والذي دمر هذا التجانس هو السلطة المركزية لإنها احتكرت التفاعل الطبيعي بين الوحدات وجعلته يمر عبرها لتتحكم في طبيعة التفاعل وحجمه ونتائجه. ويمكن للمرء أن يعطي مثالاً واضحاً للتدمير الممنهج الذي مارسته السلطة المركزية في الأقاليم، فقبل تحول سوريا للعقيدة العروبية بدءاً من دولة الوحدة وما تلاه من اشتداد عود السلطة المركزية في دمشق، كانت منطقة الجزيرة السورية وحدة متجانسة بل أكاد أزعم أنها كانت تمتلك هويّة موحدة زراعية إنسانية مسالمة تندرج تحتها الهويات الإثنية التي لم تكن تحتل الصدارة للعرب والكرد والسريان وبقية الإثنيات الصغيرة من أرمن وشركس وشيشان. لم يكن الوعي القومي للهوية هو السائد، بل كانت المنطقة متداخلة في العمل والملكيات والنشاط الإجتماعي، وكان هناك شبه تقسيم للعمل في تلك المنطقة على أساس المهارة، فعلى سبيل المثال اختص الأرمن بالميكانيكا وقطاع الخدمات لجميع السكان وليس لقومهم فقط، واختص العرب بالرعي وتربية المواشي وتشاركوا مع الكرد بالزراعة وكذلك مارس الكردعلى نطاق واسع مع بعض العرب الأعمال التي تحتاج جهدا عضليا من بناء وغيره. وكنت تجد عرباً محسوبين على عشائر كردية لأنهم عاشوا بينهم وتجد كرداً في عشائر عربية. أعني هنا أن لم الإثنية أو القومية أو العرق لم تشكل أي معضلة حتى جاءت الحقبة الناصرية والبعثية والتي حشرت الجميع في الوعي القومي واستخدمت العرب وقوداً لشعاراتها مما خلق وعيّا مكافئاً ومعادلاً لدى الإثنيات الأخرى بقومياتها، وبدأ هذا الإنقسام العريض الذي يحتاج علاجه لزمن طويل و جهود جبارة ليست محكومة بالنجاح سلفا. 

 

إن أول نقطة في إصلاح تركة البعث والنظام الأسدي هو التخلي عن السلطة المركزية وإنشاء كيان فيدرالي لسوريا، يجمع الأقاليم السورية تحت سلطة مركزية منزوعة الصلاحيات في العاصمة، وصلاحيات واسعة في الأقاليم بما فيها القوات المحلية من شرطة وحرس إقليم وليس جيش. وبالرغم من أن هذا المسار قد يبدوا مسارا تقسيمياً إلا أنه مسار واقعيأولاً لما آلت إليه الأمور، وأيضا وهو الأهم مسار يراعي مصالح السكان، وهذه يجب أن يكون لها الأولوية قطعاً عن التفكير بمستقبل سوريا،ويجعل الكيانات المحلية قادرة على إنتاج ممثليها من أصغر الوحدات الإدارية إلى أعلى هرم في سلطة الإقليم، وكذلك يمكن الإقليم من أن ينتخب ممثليه لأي سلطات تمثيلية مركزية، ولا سلطة للعاصمة في اختيارهم أو تعيينهم. وثالثاً؛ وذلك أيضا مهم، هذا مسارٌ يمنع عودة الإستبداد.

ولأن أهل مكة أدرى بشعابها سوف أتحدث في مقال لاحق عن فيدرالية الشمال التي يتم تأسيسها الآن في شمال سوريا لتضم العرب والكردوالسريان وبقية مكونات السكان في المنطقة