منذ سنوات بعيدة، لم ألتق بصديقي الذي ما انكفأ يدعو ليل نهار من أجل نصرة "المجاهدين" في الشيشان ضد روسيا، ويشبههم بما فعله اسلاف لهم في افغانستان ضد السلف الشيوعي، لأسأله ما هو رأيه اليوم، بعد أن فرّخت افغانستان والشيشان أولادهم "المجاهدين" أيضا.

ربما سيقول إنهم مجرد ابناء عاقين، وربما سيكون شجاعا ليعترف بالخطأ، او يلجأ للقول إنه فعل وهابي انطلى عليه وعلى أمثاله في لحظة وجدان عقائدية "وحدوية". النتيجة واحدة؛ أن كثيراً من ضحايا داعش والقاعدة وطالبان والنصرة وسواها من "المجاهدين" السنة في سوح القتال العالمية والمحلية، ناصروا جهاد الافغان وعربهم ضد السوفيت خلال الثمانينات أو الشيشان واسلامييها ضد روسيا، فيما يمكن وصفه بمعركة "الايمان" ضد الالحاد، أو معركة المسلم ضد الكافر الحربي.

وفرح كثير من ضحايا الارهاب الان، حين ضربت الطائرات برجي التجارة بحجة النصرة للمسلمين المعذبين في فلسطين أو العراق أو افغانستان وغيرها ممن استهدفتهم امريكا وحلفاؤها.

ومذ رفعت راية "المقاومة" في العراق إلى بدايات سقوط الموصل، صفق الكثيرون ورفعت الايدي بالدعاء وابتهجت نفوس عديدة، دون أن يصحو أحد على خطورة ما يجري وتداعياته. الدوافع والاسباب والمبررات صاحبت الولاء الخفي أو المعلن لوضع خطير نجم عنه ظهور داعش. وكأن السلاح الذي رفع ضد عدو ما، لن يرتد يوما ليقتل الاخوان المشاهبين مذهبيا أو دينيا.

وهناك، على الطرف الاخر وفي الجبهة المواجهة، توجد لعبة جديدة مشابهة وخطيرة، لم تعتبر من الدروس، إذ تعتقد أن مكافأة موازني الرعب تكمن في اعطائهم السلطة وتسليمهم النفوذ. إنها لعبة خطيرة، فالسلاح الذي رفع ضد داعش، سيبحث له عن عدو، ما دام سلاحاً قائما على العقيدة.

جرّب العراقيون ذلك مع جيش المهدي، الذي شجعته عقيدته على قتال الاميركيين، وثم على فرض توازن الرعب في بغداد، لكنه سرعان من استخدم ضد المشاهبين في المذهب، فوجه ضد الجيش والشرطة، واستهدف الناس وحرياتهم، بمبررات شتى، حتى استطاع أن يفرض نمطه، ونموذجه على الحياة العامة، وما التفرعات "المليشياوية" اللاحقة له الا امتداد له، يعبر عنها انها انشقاقات عنه.

ومنذ سقوط الموصل، بات شعار ان الحشد الشعبي حامي الاعراض، يرفع ليس لدعمه في المعركة ضد داعش فحسب، بل لشرعنة وجود طويل الامد، لاعتبارات عديدة، منها الوفاء لدماء الشبان الذي جاؤوا من الجنوب لتحرير الوسط والشمال، وكأن الجدل حول دماء البشر، وليس حول المشاريع التي طالما استخدمت الدماء الطيبة خدمة لاغراضها، ومن تلك المبررات ان الجيش العراقي ضعيف وغير موثوق به. دون أن يعترف الكثيرون بأن ضعف الجيش وليد السياسات نفسها التي تقاسمت محاولات اضعاف الدولة، من اصحاب شعار المقاومة أو شعار حماة العرض. وبتعبير ادق، ان تقديس الحشد اوجدته العملية السياسية نفسها التي خلقت جيشاً فاسدا ومترهلاً، بذات الدرجة التي خلقت شعارات المقاومة واسيادها كل اسياد الارهاب من الزرقاوي الى البغدادي.

بالطبع، ليس منصفاً تشبيه داعش بالحشد، لكن الانصاف ان نقارن الحشد بالجهاديين في افغانستان والشيشان وغيرها من البقاع التي شكلت مرجعية اساسية لولادة الوحش بأطواره. النوايا واحدة، والاهداف والاسباب والدوافع كذلك. معركة من اجل الوجود ضد عدو يهدد الهوية او الناس، وهذا ما حضر بقوة في تجارب ما قبل صعود الطائفية.

سيقال ان الفرق كبير بين التدين الشيعي والتدين السني، وان الاول معتدل بينما الثاني قاس وشديد، وهذا كلام في ظاهره يبدو صحيحاً، لكنه باقل تعمق يتلاشى، حين نعرف ان مرحلة الثورة الايرانية انهت ما يمكن تسميته "السلبية" الشيعية، والتي تعتمد على انتظار المهدي، لأن ولاية الفقيه اعلان وفاة لمرحلة انتظار المخلص، إذ اصبح الولي الفقيه هو المهدي. فصلاحيات الفقيه في كتاب "الحكومة الاسلامية" للخميني، هي صلاحيات النبي والامام، وما يقوم به هو الاوامر الربانية.

وليس مصادفة ان الحشد الشعبي، وسلفيه المتمثلين بمنظمة بدر التي تأسست في من قبل ولاية الفقيه الايرانية وجيش المهدي الذي يمثل امتدادا لفكرة ولاية الفقيه الصدرية، هما العمد الاساس لتكوينات الجماعات المسلحة العراقية. بمعنى ان السلاح الشيعي العراقي يعتمد على نموذجين من ولاية الفقيه، وكلا النموذجين هما اجهاز على منهج الانتظار الشيعي للامام الغائب. هذا الاجهاز يعني بالضرورة نهاية الاعتدال الشيعي النابع من العقيدة الكلاسيكية للشيعة، والتي تتضمن تأجيل الجهاد الى حين ظهور الامام الغائب. فليس ثمة تأجيل، لأن الولي الفقيه هو الامام المهدي، او البديل عنه. فالخميني ولاحقه الخامئني يمتلكون صلاحيات النبي محمد والامام علي وغيرهم، بنفس الدرجة التي يمتلكها الخليفة في الفقه الكلاسيكي للمذاهب السنية.

والجماعات القتالية الشيعية جميعاً، او باستثناء المتطوعين الذين استجابوا للسيستاني، وهم قلة، مرتبطون بمرجعيتين تؤمنان بان صلاحيات الفقيه هي صلاحيات النبي، وهي مرجعية الثورة الايرانية ومرجعية صلاة الجمعة الصدرية. فسواء عصائب اهل الحق ومنظمة بدر وكتائب حزب الله... المرتبطة بشكل عضوي بالجمهورية الاسلامية، ام سرايا السلام الصدرية، الطرفان يؤمنان بان الفقيه له صلاحيات قادرة على اعلان الجهاد ذاته الذي يحق للامام المهدي اعلانه. ومن يريد فليراجع فتاوى السيدين الخميني والصدر في هذا الصدد.

هذه العقيدة المستجدة لدى الشيعة، والتي تتكون بهدوء بعيداً عن التنظير العلني، تمثل خطراً كبيراً، لا يمكن التعامل معه بذهنية ان الشيعة مرنون والسنة متصلبون. هي ذهنية كلاسيكية، لا تنظر الى المتغيرات. واذا ما صمتت الشيعية السياسية اليوم، فإنها تفعل ذلك انطلاقا من كونها صاحبة القول الفصل في بغداد وبيروت وبطريقة ما في دمشق، فهي لم تخسر المعركة، على العكس تحقق السطوة والنفوذ، وخصومها السنة هم من هزم.

فتجربة لبنان ضد المايرنز او جيش المهدي ضد الامريكيين والسنة في العراق، ماثلة وبقوة، وتمثل تجربة مريرة ضد من يريد التفريق بمستوى العنف الوقوف عندها طويلا، ليفهم ان العنف الشيعي ليس غائبا عن المعادلة، بقدر كونه غير مضطر لممارسة الكثير من العنف كي يثبت ذاته.
فلنتخيل ان حزب الله اللبناني يخسر السلطة والنفوذ في لبنان، ألن يمارس ذات دوره الذي يقوم به في سوريا؟

سيفعل، ويفعل العراقيون الشيعة ذلك، كما فعلها العراقيون السنة. انها غواية خسارة النفوذ والسلطة، وشاهدناها حين خسر ما يسمى بمحور الاعتدال العربي والخليجي، نفوذه في اليمن، كيف تصرف...
انه الاعتدال المرهون بامتلاك السلطة واستقرارها، يذهب حين تذهب السلطة.