كنت في دكان بيع الكتب القديمة في استوكهولم، استرعت انتباهي روزنامة قديمة، مناظرها جميلة جدا فاشتريتها وبمبلغ زهيد، علقتها على جدار حجرتي، أعظم مزايا الوحدة: ليس هناك من يعترض على روزنامتك حتى لو كانت من العصر الحجري!

لكنني لسعت حد القشعريرة حين عرفت أنها روزنامة سنة 1939، السنة التي اندلعت في خريفها الحرب العالمية الثانية!

أكان العالم جميلا إلى هذا الحد، حين أعلنت الحرب، فأحرقت أكثر من نصفه وتركته مشوها حتى الآن، ينتج حروبا صغيرة ومتوسطة، كل يوم وكل ساعة، كأنه يمهد لانتحاره!

مضيت أقلب أوراقها الصقيلة، الشواطئ الجميلة المحاذية للسماء، الغابات والقصور، الشوارع المكتظة بالعمارات والأسواق والساحات الضاجة بالناس، أين كانت تخفي الحرب؟ هل الحرب أفعى تنسل بين الجلد والثوب، لا تلدغ إلا في آخر لحظة؟

هؤلاء،الأطفال يغنون في روضتهم، أسمعهم، أجمل من الطيور والزهور والنجوم، حين يغنون معا، كيف ناموا ليلتهم بعد أن سمعوا بوق الحرب، أو قتل أحد أمام أنظارهم؟ كيف نطقت أفواههم لأول مرة بكلماتها المبتذلة الجارحة؟

نساء ورجال يرقصون متشابكي الأيدي في ساحة قرية نظيفة، ماذا جرى لهم حين سقطت قربهم أول قنبلة؟

هذه الفتاة الحسناء المضطجعة شبه عارية على الشاطئ، كم انكمش نهداها الفائران وهي ترى طائرة عسكرية تحلق فوقها؟

هل خرجت أشباح الحرب من فوهات المدافع، أم من أفواه الساسة وأدبار العسكر، وكروش رجال الدين وتجارهم؟ الحرب زحار ومغص يبدأ في القلب لا في الأمعاء؟

أتوجد داخل هذه الغابات الخضراء أشباح بعدد أشجارها؟

كم من المجانين داخل بيوت هذه المدينة مختبئون بين أحجارها؟

لا تقل: مجنون واحد يكفي، لتبدأ الحرب!

لا، لا أبد هذا ليس صحيحا! لكي تبدأ الحرب تحتاج لشعب يستطيع أن يملأ ألف مستشفى بالمجانين كل يوم! ثم يتركهم دون مهدئات ولا جدران حولهم،بل يضعهم في أماكن متقدمة ليتحكموا بالعقلاء ويلعبوا بمصائرهم! ثم كما تختار الضواري من يتقدمها يظهر المجنون الكبير! لا تسأل أين كان يختبئ هتلر وموسليني، ليس مهما،ربما في ماخور، ربما في كنيسة، تحت حمالة هذين النهدين الفائرين، ربما

تحت بشرة طفل جميل،ربما في كأس النبيذ، في كتب الفلسفة، في هذا السجق الشهي المعلق عند باب المطعم، ليس مهما، اذهب إلى الناس وأسواقهم، ومعابدهم تجده هناك، الدكتاتور يتكون كالجنين في الرحم ويخرج كالمارد من الآلة! الذئاب والأفاعي والجراثيم في براءتها الكاملة، الكنائس والمساجد والحانات وبيوت الدعارة تتظاهر إنها آخر من يعلم وهم يعلمون قبلنا وأكثر منا! لقد فسدت روزنامتي المطبوعة قبل الحرب بعشرة أشهر، أنزلتها. ظهر جدار الحجرة تحتها وقد بدأ ورقه يتشقق، كأنني أراه لأول مرة، كيف سأنام في هذه الحجرة؟