إذا كانت الأربعين تعني كل ما تعنيه في ثقافات وكوامن الشعوب والأفراد، فإن ما بعدها وهجٌ وكشفٌ ونورٌ وحريّة. 
بلوغ محطّة الأربعين، يعني الوصول إلى لحظة الحقيقة والمسؤولية، حيث لا مهرب من أجوبة واضحة على أسئلة مصيريّة، ماذا أنجزت، في حياتك، في أسرتك، في عملك؟ هي _ برأيي_ كشف حساب مبكر يمهّد لدخول رسمي إلى مربّع " الجودة ".

ورد في العديد من المأثورات الشعبية قولهم: " يخلق من الشبه أربعين " و" من عاشر القوم أربعين يوماً صار منهم "، و" الأربعينيّة " يُحييها البعض من مختلف الديانات والثقافات بعد مرور أربعين يوما على وفاة الميت حيث لا ينزعون لبسهم الأسود إلا بعدها وتعني أيضاً إنتهاء حالة الحداد، وهي عادة مصرية قديمة منذ عهد الفراعنة. 
وإن إرتبطت " الأربعين " بالحزن والسواد فإنها أيضاً لحظة نهاية وعبور إلى الحياة الطبيعيّة بكل ما فيها من ألوان. 

نحن العرب، ويا لشقائنا، يرى أكثرنا في سن الأربعين يأساً وقنوطاً وذبولاً إستباقياً، فيُسارع إلى الإستسلام السّهل أمام أوهام هي بذاتها من صنع ما ترسّب في أذهاننا من إنطباعات خاطئة. 
فما بالنا لو نظرنا إلى حقائق " الأربعين " من زاوية أخرى، فنحن مجتمعات شابّة سريعة الإنفعال، تتأثر بالعاطفة الدينية على نحوٍ خاص، ومراحل العمر المبكرة لا تسمح للسواد الأعظم من الأجيال الفتيّة بسعة الإطلاع على منابع الأفكار ومشاربها المختلفة ولا حتى على معانيها ومقاصدها، وفي ظل حالات الفوضى نجد أن خطاب الإرهاب ينتشر بين الشباب إنتشار النار في الهشيم، وأن معظم هؤلاء " الضحايا " هم من الفئة العمرية بين 15-25 عاما، أليس الإرهاب أكثر ما يهدد مجتمعات وشعوب ودول منطقة الشرق الأوسط، ثم أليس الوعي والنضج من أبرز شروط التخلص من هذه الآفة الفتّاكة؟ أوَليس من بلغ الأربعين نجا؟. 
إلى هذا، تضيق الأنفاس على الشباب ويحاصرهم التشدّد مدعوماً بفائض عادات وتقاليد تبالغ في المنع والتقييد والتحريم، فالفنون مكروهه ومُحرّمة، والرياضات مهملة، والعلاقات الإجتماعية مقيّدة بإعتبارات ضيّقة، فلا يجد الشاب من منفذٍ يعبّر من خلاله عن هويّته وهواياته وطاقاته إلاّ سراً أو خارج النسق والصندوق، لهذا نلاحظ أن نسبة كبيرة _ ومسكوت عنها _ من الشباب تتعاطى المخدرات والمنشطات في نزق وطيش مزيّف ليس فيه إلاّ ما يندم عليه أي شاب فورَ الخروج منه. 
والحال، نتوق وننشد مجتمعاً عربياً " أربعينيّاً " مُنتجاً وعاقلاً يفهم العالم، وقادر على أن يحدد موطيء قدم له فيه، يمارس التسامح و يضطلع بمسيرة التنمية على أفضل وجه ممكن. 

الغرب الهادر بالحياة والإبداع لا يتوقف لا عند الأربعين ولا حتى عند السبعين، هو مسكون بالحركة والإنتاج والبحث الدائم عن الجديد، وإنك لتحتار في سن معظم النساء الغربيّات وقد أصرَرْن على حسن طلّتهن رشاقةً وموضةً وذوقاً وجمالاً، وإعتبار ذلك مسألة ثقافية تتعلق بتقديم أفضل صورة أمام الغير دلالة على إحترامه، فيما تصرّ بعض موروثاتنا الذهنية _ ويا للهول _ على إحياء مراسم وأد "المرأة الشرقيّة " في الأربعين!. 

أذهلني ما رصدته في عدد غير قليل من المجلات النسائية العربية ووسائل إعلامية أخرى من تكريس فاضح للصورة النمطية عن سن " الأربعين "، فهي ملأى بأحاديث العزاء والتعويض في تسليم ضمني _لا إرادي_ بأن بلوغ هذا السن يعني نهاية كل شيء، فتتردد _ مثلاً _ مصطلحات ( العمل الخيري – إسعاد الآخرين – جمال الروح لا جمال الشكل- سن الأمل لا سن اليأس )، فيما يغيب أي حديث عن ديمومة "الأنوثة " أو أي إهتمام بمظهر الجسد. 
معلوم أن تراكمات موروثة مترسبة في النفوس والنصوص لا يمكن زحزحتها بسهولة، لكنّ الشغف وحب الحياة كفيل بتغيير الكثير من الأفكار القاحلة السائدة. 

 جنّ الشعر لا يأتي إلاّ بغمائم بيض ورقائق مسحوره، والشعراء إستثناء دائم، إلاّ أن لدى أكثرهم "فوبيا" الأربعين، غازي القصيبي، المتعدد المواهب والإنجازات، شاعراً وديبلوماسيا ووزيراً، صوّر ما فعلته الأربعين بنفسه وجسده بعد أن أحالت أحاسيسه الفتيّة إلى كهولة فأطفأت شعلة حماسه وإستراح الفتيل بعد أن نفذ الزيت، قال: 

قبضةُ الأربعين تهْصُر روحي.. فأحاسيسي العذارى كهولُ 

لم تَعد ثمّ شعلة من حماسٍ.. سَكب الزيت واستراح الفتيلُ 

وفي قصيدة أخرى يتساءل بقلب يحوي بين طياته الألم والحسرة على صباه الذي ولّى فيقول 

 عدتُ كهلاً تجره الأربعون.. فأجيبي أين الصبا والفتون؟ 

يتداول البعض أن لكل إنسان 10 سنوات من حياته يكون خلالها في قمة حيويته ونشاطه وعطائه وإبداعه، ويحظى فيها بما تضمره له الحياة من فرص، وغالباً ما تأتي هذه العشر بعد الأربعين، هنا من البديهي أن يكون المرء قد صقل تجاربه ومعارفه وصار مُهيئاً لكل أنواع الإستحقاقات والمهمّات، الأربعون أرض المعركة الحقيقيّة إذا ما حقق الإنسان فيها إنتصاراته منجزاً قصتّه تاركاً بصمته، وبعدها، يا مرحبا بأبيض الشعر وشمس المغيب. 

تقول فيروز في الأغنية باللهجة اللبنانية المحكيّة: "تعا تا نتخبى من درب الأعمار.. وإذا هني كبروا.. نحنا بقينا صغار.. وسألونا وين كنتو.. وليش ما كبرتوا إنتو.. منقلن نسينا.. واللي نادى الناس.. تيكبروا الناس.. راح ونسي ينادينا ". 

جميل أن نبقى أطفالاً في أرواحنا، نعيش الحياة على سجيّتها، كأن نضحك لأناسٍ لا نعرفهم، أو أن نتلقّف كرةً طائشة من أولاد يلعبون على ناصية الشارع، نُراوغ بها ثم نرسلها ركلة " رونالدونيّه " ونتابع المسير.. 

شخصياً، وإن كانت الأعمار بيد الله، لتمنيت لو كان لي أن أركب كبسولةً صاروخيةً تخطفني من ما تبقى لي من عقد الثلاثين لترمي بي في أحضان الأربعين، حيث جائزتي، وموعدي مع الحرية. 

كاتب وصحافي لبناني