في ظني ان ترامب لم يقرأ كتاب هنري كيسينجر الذي عنونه " النظام العالمي الجديد " الذي يؤكد في العديد من صفحاته ، ان اولي مسئوليات رجل الدولة المحنك هي " ان يمنع العبث بالاستراتيجيات الكبري لدولته ، وان يقمع كافة محاولات تقويض مصالحها " .. 

لماذا تولد عندي هذا الظن ؟؟ .. 

لأن الرئيس الأمريكي لم ينتظر وضع نهاية مستقرة لأزمة إدارته مع موسكو حول دورها في الإنتخابات الرئاسية التى أتت به إلي البيت الأبيض !! .. نهاية تحسم الجدل الدائر وتقضي بأنه لا أساس له من الصحة .. بل سارع بفتح جبهات عدة داخلية وخارجية يُجمع الخبراء علي أنها ساهمت بقوة في النزول بمكانته إلي مستويات أكثر إنخفاضاً مما كانت عليه منذ شهرين .. 

لهذا لم يكن مستغرباص أن تنشر صحيفة الفينانشيال تايمز البريطانية يوم 15 من شهر اغسطس الجاري ان أمريكا تحولت علي يديه إلي دولة معادية للسلام والأمن الدوليين .. ويري كاتب المقال – المحلل السياسي لجديون راخمان - أن ما كانت تنشره موسكو وطهران لفترات طويلة من إتهامات تدين واشنطن بأنها تعمل علي إثارة الحروب وتفتح أبواب الإقتتال في كافة أركان الأرض خدمة لمصالحها الذاتية ، تحولت – هذه المزاعم - علي يد ترامب إلي حقائق ملموسة حولت الولايات المتحدة الأمريكية إلي " أمة خطيرة " .. 

مكونات هذه الخلاصة يتأتي كما يري الخبراء ، من .. 

قيامه منذ أقل من شهر بفتح جبهة صراع مع كوريا الشمالية لأن قيادتها الشمولية لم تنصاع لمطلب الحد من نشاطاتها العسكرية والتنازل عن تمسكها ببناء ترسنتها الصاروخية العابرة للقارات ، كما لم تؤثر فيها العقوبات الإقتصادية التى فرضها عليها بالاجماع مجلس الأمن الدولي .. والأهم من ذلك أنها لم تستجب لوساطة حليفتها الكبري الصين في هذا الخصوص .. 

جبهة الصراع بدأت متصاعدة من الجانبين .. تهديد وتهديد متبادل .. تصعيد وآخر أعلي منه .. وخطط معلنه من جانب بيونج يانج بتدمير جزء من جزيرة عليها واحدتين من أكبر القواعد الحربية الامريكية في شرق اليابان إحداهما بحرية والثانية جوية .. ووعيد من جانب واشنطن الأخر بأن محوه من فوق الخريطة لن يستغرق سوي دقائق معدودة .. 

وانشغل العالم .. 

حلفاء أبدي بعضهم تخوفه من إندلاع مثل هذه الحرب التي وصفها الرئيس الأمريكي بأنها أن وقعت ستكون " غير مسبوقة " حيث قاموا بنشر منظومات صواريخ مضادة للصواريخ .. وأظهر البعض الأخر – خاصة في أوربا - قلقاً مبرراً حيال ما يمكن ان تتعرض له مصالح بلدانهم وإستثمارتها ، في هذه المنطقة من العالم ، من خراب ودمار ..

ونصح أصدقاء للولايات المتحدة بضرورة إتباع الحكمة والركون إلي الدبلوماسية التى من شأنهأ أن تصل بالموقف كله إلي نقطة الإتزان .. كان من بينهم الرئيس الصيني الذي طالب الجانبين باللجوء إلي الطرق الدبلوماسي للتوصل إلي حل للأزمة القائمة بينهما .. ورئيس كوريا الجنوبية الذي اكد لرئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال جوزيف دانفورد بضرورة دعم المسار السياسي للأزمة بكل قوة .. بينما حذر وزير خارجية ألمانيا من تداعيات خطاب الرئيس الأمريكي " الحربي غير المبرر " الذي قد يصل بتكتيك التصعيد إلي مستوي العمل العسكري " كما حدث إبان الحرب العالمية الأولي " التى برهنت أحداثها علي تعارض تام مع قيم الديموقراطية التى علينا ان نعززها اليوم بكل ما لدينا من ضمائر " .. 

وعاب المستشارون العسكريون الغربيون علي ترامب عدم لجوءه إلي فتح مجالات التعاون الوثيق مع الحلفاء والأصدقاء قبل الإدلاء بخطاب " الغضب الناري " الذي أدلي به !! لأن الخيار العسكري المعروف باسم " الخطة أوبلان 5027 " سيحتاج لمساندتهم المادية واللوجستية .. وإلي دعمهم الدولي خلال فترة التحضير للقيام بأول عمل حربي ضد الخصم ، لأن العالم كله سبقي علي حافة الهواية في انتظار ما ستتمخض عنه ترتيبات نقل الجنود والمعدات الأمريكية من منطقة الخليج ومن أوربا إلي ساحة العمليات .. وما تحتاجه هذه الخطوة من تأمين للمدنين في اليابان وفي كوريا الجنوبية وفي جزيرة " جوام المستهدفة من جانب بوينج يانج " التى يعيش فيها حوالي 160 ألف من السكان الأصليين !! .. 

كلا العاصمتين جاهزة بخطتها العسكرية .. 

وكلاهما تبدو للعالم الخارجي غير عبأة بالنتائج الكارثية التى ستترتب علي خطوت الصدام العسكري ..

وكلاهما تكلف قادة جيوشها بالإستعداد الفوري ..

وفجأة خفتت الأصوات .. 

لكن الرئيس الأمريكي لم يتراجع عن مسلسل العبث .. 

فمن ناحية سارع – 12 أغسطس الحالي – بتحذير رئيس فنزويلا من قدرة الولايات المتحدة علي اللجوء لـ " الخيار العسكري " لفض الإشتباك بينه بين شعبه علي خلفية الأزمة الطاحنة التى تعيشها بلاده منذ بضعة اسابيع .. 

ومن ناحية ثانية تصادم مع المجتمع المدني الأمريكي حين لم يفرق بين المناهضون للعنصرية علي خلفية العنف الذي تولد عن الأحتجاجات التي شهدتها منتصف الشهر الحالي مدينة شارلوتسفيل بينهم وبين النازيون الجدد ، لأنه ألقي باللوم علي كلا الطرفين !! الأمر الذي استهجنته قوي سياسية مدنية وحزبية – كان من بينهم الكثير من الجمهوريين - وعواصم عالمية ، رأت جميعها في مساواة ترامب بين الجانبين " إنكار للقيم التى قامت عليها الولايات المتحدة ، ورفض من جانبه لضرورة التمييز بين دعاة السلم المجتمعي ومروجي العنصرية الجدد " .. وقال البعض ان ما جاء علي لسانه في هذا الخصوص " يشكل خطر جسيم ، ما كان لرئيس أمريكا أن يقع فيه ، لأن النازيون الجدد ليس فيهم طيبون و لا أخيار " ..

الأمر الذي دفع صحيفة الجارديان في عدد 17 من الشهر الجاري إلي وصف مؤتمرالرئيس الأمريكي الصحفي الذي عقده – قبل ذلك بيوم واحد - للتعليق علي هذا الحدث الداخلي بأنه " كان خالياًمن الوقار والحكمة الإخلاقية " الذي تعودنا أن يتصف بها الرؤساء الأمريكيون عند تناولهم لمشاكل بلدهم الداحلية .. وقالت أنه تجاوز الحدود عندما " تعدي الخط الفاصل بين ما هو مقبول وما هو مرفوض علي مستوي رؤية العالم لسلوكيات أي زعيم منتخب لقيادة بلد متعدد الأعراق والثقافات " .. وطالبت بضرورة " عدم السكوت أوربياً علي مثل هذه التصرفات " حتى لا تتكرر وينتج عنها ما لا يُحمد عقباه " .. 

هذا الموقف دفع الشارع السياسي في لندن لطرحتساؤل يقول .. 

إلي متي يستمر مسلسل عبث ترامب بأجندة السياسات الأمريكية خارجياً وداخلياً ؟؟ .. 

• استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا 

[email protected]