غاب تماماً عن الخطاب السياسي الكردي، في العقود القليلة الماضية، الحديث عن قيام دولة كردية مستقلة. وكانت جلّ مطالب القوى والأحزاب الكردية تتركّز حول ضرورة أن يعيش الكرد بهويتهم الثقافية والقومية، وأن تكون لهم كيانات ذاتية تحفظ لهم هذا الحقّ، دون أي مساسٍ بالحدود السياسية للدول التي تقتسم أرضهم.

وإذا كان الكرد يُقدمون اليوم على خطوات يمكن أن تُفهم على أنها بدايات للتوجه نحو الاستقلال، سواء في العراق أو سوريا، فمن الجدير التوقف بعناية عند الأسباب التي تدفعهم إلى هذا الخيار، وعدم تجاهل مسؤولية الطرف أو الأطراف الأخرى في الخطوات الكردية "الأحادية الجانب".

في إقليم كردستان، تقول الحكومة إنها طرحت موضوع الاستفتاء، بعد أن استنفدت كل فرص تحسين وتطوير العلاقات مع بغداد، وهي تعتقد أن الاستفتاء خيار معقول، بغضّ النظر عن تبعاته، لحمل الحكومة المركزية على الإيفاء بالتزاماتها القانونية والدستورية، وخاصة ما يتعلق بالمسائل المالية والإشكاليات القائمة حول المناطق المتنازع عليها.

وفي شمالي سوريا، تُقدم بعض القوى الكردية على خطوات تقلق شركاءهم في الوطن، وهو قلق مبرّرٌ في مستويات معينة، لكن، وبدلاً من حملات التشويه والتحريض التي يتعرّض لها الكرد، وما قد يحمله ذلك من مخاطر جمّة تضرّ مستقبلاً بكل المكونات السورية، أليس من المنطق فهم واستيعاب قلق الكرد أيضاً، في ظل تجاهل النظام السوري والمعارضة لمطالبهم، والإعلان صراحة عن رفض المشاريع التي يطرحونها، مثل الإدارة الذاتية والفيدرالية، حتى دون ترك أية مساحة للحوار والتفاوض بشأنها؟ ثمّ ألا يحقّ للكردي السوري أن يتساءل عن ماهية الحقوق التي ربّما يفكر النظام والمعارضة في منحها له؟ أضف إلى ذلك، أليس طبيعياً جداً أن يثير التأجيل والمماطلة في هذا الموضوع، المخاوف لدى الكردي بأن أوضاعه في سوريا الغد لن تكون أفضل حالاً عمّا كانت عليه في سوريا الأمس؟

إذاً هناك كم من الذرائع والمبرّرات التي يرى الكرد أنها تضفي المشروعية على محاولاتهم الحالية، وتجعلهم يغرّدون بعيداً لوحدهم، وهي ستبقى سارية المفعول إلى أن يسحبها الطرف الآخر من أيديهم، ولن يحدث ذلك إلا عن طريق تبديد مخاوفهم والاستجابة لنداءاتهم ومطالبهم.

يعلم الكرد جيداً استحالة إنشاء دولة كردية موحّدة، تضم جميع مناطق انتشارهم في الدول الأربع المعروفة، تركيا وإيران والعراق وسوريا، أو حتى في أيٍّ من هذه الدول، لذلك انحصر الخطاب السياسي الكردي في المطالبة بالحقوق الثقافية والاجتماعية، وفي أفضل الأحوال نظام حكم ذاتي أو فيدرالي.

وفي الواقع، فإن عاصفة الغضب والاحتجاج التي أثارها إعلان الاستفتاء في إقليم كردستان، واستمرار الضغوط، تحديداً من الدولة الإقليمية، للحؤول دون إجرائه، خير برهان على صوابية التغيير الذي طرأ على الخطاب السياسي الكردي، في العقود الأخيرة، وخاصة ما يتعلّق بالتخلي عن فكرة الدولة القومية الموحّدة، أو كردستان الكبرى.
القوى والأحزاب الكردية كانت تأمل من هذا التحوّل في خطابها وأهدافها، والذي اعتبره غلاة القوميين الكرد تنازلاً عن حقّ مشروع للشعب الكردي، أن يمهّد لفتح صفحة جديدة مع أنظمة الدول التي تقتسم كردستان، على اعتبار أن الذريعة التي كانت تبرّر بها هذه الأنظمة قمعها للكرد، هي محاولة اقتطاع أجزاء من أراضيها لإقامة دولة كردستان.

لكن لم تطرأ أية مرونة على طريقة تعاطي هذه الأنظمة مع قضية الشعب الكردي، وظلّت العقلية الإنكارية الإقصائية هي السائدة، كما بقي الكرد في نظر هذه الأنظمة، وفئات الشعب المنخدعة بسياساتها، على أنهم تقسيميون انفصاليون، ومجرّد خونة وأدوات في يد الغرب لتجزئة وتفتيت دول المنطقة.

بناء عليه، فإن أية محاولة من الكرد اليوم لضمان حقوقهم، حتى ولو في حدودها الدنيا، يُنظر إليها على أنها جرمٌ ومساس بالمحرّمات، يستحقون عليها أشدّ العقاب.
وإذا كان عراق ما بعد صدام، هو الأقرب إلى فتح صفحة جديدة مع الكرد، وإعطاء نموذج تقتدي به الدول الأخرى مع كردها، يصل به الحال إلى ما وصل إليه، بمجرّد أن أعلن الإقليم عزمه على إجراء الاستفتاء، كحقّ مكفول قانونياً ودستورياً، فكيف للكردي في بقية الدول أن يُبعد عن نفسه شبهة الانفصال والتقسيم؟!