قد لا يكون منطقياً في الوقت الراهن بالنسبة للملايين منسكان الشرق الأوسط القول لهم، بأن عليهم التمثل التاملمضمون ما جاء في الحديث النبوي "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" وذلك باعتبار أن تبعات عملهم بها أو مجرد قولهم لها إن لم تدفع الواحد منهم إلى الأقبية، فمن المؤكد بأنها قد ترديه إلى مواطن الحاجة أو التضور جوعا، هذا بعد أن يُحرم من حق التوظيف، أو يُبعد من الموقع الذي هو فيه أو الذي كان يسعى بكده للوصول إليه على أقل تقدير.

ولكننا من باب التخفيف من هول النطق بكلمة الحق، ومن باب تبسيط معاني مفردة الحق، سنورد لها ثلاث تعريفاتٍواقعية وقريبة من الحياة اليومية للقراء، إذ وفق وجهة نظر بعض المفكرين والفلاسفة أن الحقّ هو ما كان متسقاً مع الحقيقة، والحق هو ما يتلاءم مع موضوعه، والحق هو سرد الواقع كما هو أو ما كان صورة طبق الأصل عن الواقع، لذافحسب التعريفات الشفافة السالفة الذكر، فإن كلمة الحق من السهولة بمكان محاكاتها، أو تمثلها بالنسبة للإنسان الراغب بتبنيها متى ما أراد، وذلك سواءً أكانت الكلمة ستقال بحق فردٍ أم بحق جماعة، بحق مذنبٍ أم بحق بريء، بحق قريبٍ أم بحق غريب، عموماً فبالرغم منصعوبة العمل بكل ما تحمله الكلمة من الأثقال الوجودية في الوقت الحالي، إلا أنها تبقى محببة ومدعاة ابتهاجٍ كلما ضُربت حروفها بسماء حنجرة الإنسان، بما أن عمالقة الفلسفة بجّلوها، وفي مقدمتهم أرسطو الذي فضّل الحقّعلى أعز الناس إليه، وذلك بقوله: "أفلاطون صديق والحق صديق ولكن الحق أصدق منه".

إلا أن ثمة سؤال قد يداهم فضاء أغلبنا ألا وهو لِمَ يا ترىيتحسس الكثير منا واقعياً وليس قولياً من مقاربة عملية إحقاق الحقق، ولاشعوريا يرفض الواحد منا الخضوع أوالتمثل لميزان الحق، ولمَ نتملص معظم الأحيان من الإلتزام بفحوى الكلمة، بالرغم من أن بعضنا قد يكون من أكثر مرددي الكلمة في المحافل والمنابر والمجالس، ولكن إلى جانب ذلك فلربما وجدنا لدى بعضهم أن اِستحضار تلك المفردة ـ أي كلمة الحق ـ أشبه باستجلاب المكروهِ إلى مجلس الأنس والإمتاع، ورأيناهم من أشد الناس كرهاً بسماع تلك المفردة بكونها تمطرهم بأرطال الواجبات، أوكانوا يشعرون بأن تلك الكلمة تحمل إليهم رُسلاً منالوخزات كلما حضرت مضارب أسماعهم، وكنموذج من أولئك الأشخاص وعلى سبيل المثالِ، نذكر أنه كان لأحد الأشخاص نديمٌ يوافقه في أغلب ما يتلو عليه من القصص والمغامرات والوقائع، وكان الشخصَ يستسيغ سماعها ولا يبدي انزعاجا من أغلب ما يُقرأ على مسامعه من قِبل صاحبه، إلا أن النديم لاحظ بأن قرينه لا يجفل سوى من كل حديثٍ أو جملة يأتي في سياقها قول كلمة الحق، فقال له بعد أن أخذتهما نشوة السكر بعيدا، لمَ يا ترى توافقني في معظم ما أسرده على أسماعك بالرغم من معرفتك ضمناً بأن الكثير مما أقوله يناقض الحقيقة وهو أقرب إلى الخداع والضلال، ومع ذلك أراك في أتم انطرابك بها، بينما ولمجرد أن تسمع كلمة الحق وهي تُقال ولو عفو الخاطر في سياقٍ ما حتى أراك متكهرباً، فملامحك تتغير بسرعة البرقِ وأساريرك تغدو قاب قوسين من التعكر؟ فهلا شرحت لي ما يُقلقك من أمر تلك الكلمة حتى إلى هذه الدرجةتقض مضاجعك كلما ذُكرت أمامك؟ فرد النديم وهل تحفظ سري إن وضحتُ لك أمر ما يُكربني كلما تناهت إلى أسماعي موسيقا تلك الكلمة؟ قال القرين تفضل واعتبر بأن ما ستسرده لي الآن قد أودعتهُ في حضرة شخصٍ غادر المسكونة بعد أن قصصت عليه ما يُربكك؟ فارتاح النديم من العهد الذي سمعه من صاحبه وقال: حقيقةً أتضايق من سماع كلمة الحق لعدة أسباب، منها: لأنها تذكّرني بهضمي لحق أخي الصغير الذي كذبت عليه يوماً بقصة أني تورطت في مصيبة كبيرة، وقولي له آنئذٍ ليس أمامكإلا أن تبيع مصاغ زوجتك حتى تخلصني من العواقب الوخيمة للمشكلة، وقد فعل أخي ولكني كنت كاذباً ولم تكن ثمة مشكلة قد حدثت لي، إنما كانت حيلة مني لاستغلالطيبته وصدقه لكلامي، ووقتها رحت صرفت ثمن مصاغزوجة أخي في نادٍ ليلي! وتزعجني كلمة الحق لأنها تذكّرني بحق أمي علي، أمي التي حرمت نفسها من كل لذيذٍ وطيب لقاء نموي وترعرعي، وأنا في الحقيقة رغم إدراكي لتضحياتها إلا أني لا أستطيع رد أيٍّ من فضائلها علي، لأنه وبصراحة فحبي العجيب للمال يمنعني من أن أصرف على والدتي ولو مقدار مئة ليرة في الشهر! كما أني غالباً ما أَتكهرب من كلمة الحقِّ لأنها تذكّرني باستغلاليلصمت جاري في الحقل منذ سبع سنوات، إذ ومنذ سنوات وأنا أجني ثمار عدة شجرات هن في الحقيقة ملك جاريفي التخم الذي يفصل بين حقلي وحقله، ولكني لا زلت مستسيغاً استغلاله واستغباء الآخرين ولا أقوى على مفارقة هذه السجية، ولدي على كل حال العديد من الحوادث والمواضيع المماثلة وكلها تجعلني أنفرُ من كلمة الحق أينما سمعتها، فهلا خففت عني يا صاحبي الآثارالمزعجة لتلك الكلمة؟ عموماً فهذا كان نموذج واحد من بين ملايين النماذج التي قد تتلحف من باب الرياء بالعشرات من آيات الحقِ، ولكن واحدهم قد يكون من أشد الناس فتكاً بجسد الكلمة ومعناها على أرض الواقع في علاقاته الاجتماعية.

وعطفاً على ما مضى فمن المؤكد أننا في مسألة حقوق الأمم والقوميات أينما التفتنا أو مَن سألنا مِن متنوري أو نشطاء شعوب الشرق الأوسط سيقول المستفسر أو المجيببأنه مع حقوق الأفراد كما هو مع حقوق الجماعات، وكذلك مع حقوق الشعوب في تقرير مصائرها حسب المواثيق والأعراف الدولية، إلا أن الأمر إذا ما تعلق بحقوق من يقم بجواره، وبمن كان يستغلهم أو يستفيد من سكوتهم فتنقلبالآية وقتها رأساً على عقب، وبدلاً من كون بقاء الشخص صاحب حق يصبح حينها دخيلاً وعميلاً للغربوالإمبريالية، مشتِّت الأمة الإسلامية الحميدة، ومقوّض أركان المشرق برمته، هذا بالنسبة للكثير من ساسة ومثقفي وعامة الناس من الشعوب الشرقية التي تجاور ملل المنطقة كالكرد والأمازيغ والأقباط.

وختاماً ففيما يخص مطالِب المرء بحقوقه المشروعة بالطرق الحضارية فخير ما نذكره به هي جملة "إنك لا تخسر حقاً إلا إذا توقفت عن المحاولة" أي محاولة المطالبة به، أو محاولة رفع لواء الحق نفسه إن كان لكَ أو عليك، أما بالنسبة للكردي الملتف بأسمال الغفلةِ، والمطوّق بمزامير مستعبديه أو ذلك المباع الذي يرفض حق شعبه بالحرية والإباء، فخير ما نختتم به المقالة ههنا بما كان مناسباً في هذه الفترة تحديداً لمقام تلك النماذج التي تسترطب الهوان وتتقيأ أسباب العزة، من رافضي الشموخ والسموومفضلي البخس على الثمين، وذلك بما قاله الإمام مالك بن دينار بقوله: "يا هؤلاء إن العقورَ من البهائم إذا ما طُرح إليه الذهب والفضة لم يعرفهما، وإذا ما طُرح إليه العظمَأكبّ عليه، يا قوم إن سفهاؤكم لا يعرفون الحق" فعلّ قولَ الإمامِ يُحرّض مَن كان لا يزال مِن الغافلين، ويعمل رويداً رويدا على إشغال ما طاله التكلس في صناديق هاماتهممن سنين.