"لو أَنَّهُمْ من رُبْعِ قَرْنٍ حَرَّروا.. زيتونةً.. أو أَرْجَعُوا لَيْمُونَةً.. ومَحوا عن التاريخ عَارَهْ.. لَشَكَرْتُ مَنْ قَتَلُوكِ.. يا بلقيسُ.. يا مَعْشوقتي حتى الثُّمَالَةْ.. لكنَّهُمْ تَرَكُوا فلسطيناً.. ليغتالُوا غَزَالَةْ! ". 
بهذا المعنى تَوجّه نزار قباني لحَمَلة البندقية المُتنقلة ولتجار الشعارات وهواة سفك الدماء وحرق الأخضر واليابس بإسم " القضيّة " وقد إغتالوا زوجته بلقيس في عملية تفجير السفارة العراقية في بيروت ثمانينات القرن الماضي. 
في بيروت نفسها التي تتناوب عليها الوِصَايات تناوُبَ الفصول الأربعة جرى أول من أمس التحقيق مع المخرج اللبناني – الفرنسي زياد دويري بعد حجز جواز سفره من قبل الأمن العام في مطار بيروت بناءاً على دعوى رُفعت في حقه لزيارته الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وكان دويري عائداً للتو من مهرجان البندقية حيث فاز فيلمه " قضية رقم 23" بجائزة أفضل ممثل للفلسطيني كامل الباشا. 
أصدرت المحكمة العسكرية حكمها بعدم توفر أي نية جرمية، وبالتالي إِبطال الملاحقة عن دويري، إلاّ أن فريق "الممانعة" شنّع به وإتهمه بالتطبيع مع إسرائيل. 
إنّه التطبيع إذاً من جديد، فما هو، ومن يريده ؟ وهل فيه مصلحة لشعوب المنطقه ؟ 
هو - بإختصار – تعبير سياسي يعني جعل العلاقات طبيعية بين أعداء أو خصوم بعد توتر أو قطيعة. 
***
العرب من لاءات الخرطوم الشهيرة عام 67 (لا صلح – لا إعتراف – لا مفاوضات ) إلى مبادرة السلام العربية في بيروت عام 2002 وما بعدها، مرّوا بسلسلة حروب وتطوّرات عاصفة ومتغيرات دراماتيكية، الثابت فيها كان حالة الجمود والتردّي في ملف ما سُمّي الصراع العربي – الإسرائيلي. 
فحتى اللحظة الراهنة، ومنذ زهاء قرن وما بعد الحرب العالمية الأولى وسايكس – بيكو(1916) وما قبل تأسيس الكيان الإسرائيلي،يُطرح سؤال واحد، ما الذي حققه طريق العنف للشعوب العربية والإسرائيليّة ؟ وما أثره على مصير المنطقة ؟ 
***
واضح أن إسرائيل مستفيد رقم واحد من بقاء العنف وتمدّده، وما يجمع بينها وبين الكيانات الراديكالية المتطرفة الأخرى مثل ( حماس وحزب الله وداعش ) هو رهانهم المشترك على الحروب، حروب تهدم المجتمعات لتُغذّي بقاءهم، حروب تجد لها دولاً مارقة تمّدها بالمال والرجال لديمومة الصراع. 
دلائل بالجُملة تشير إلى أن لا مصلحة لإسرائيل بعد في السلام والتطبيع، فهي تدعم أولاً تقسيم المُقسّم، وإستراتيجيتها في هذا الإطار واضحة منذ البدايات، جهود دؤوبة لدعم إستقلال وتمرد الأعراق والأقليات، فضلاً عن تقاطعها البراغماتي مع حركات الإسلام السياسي السني والشيعي نظراً لما تشكله هذه الحركات من خلل بنيوي في تركيبة دولها ومجتمعاتها، وبهذا التكتيك تكون إسرائيل قد ضمنت لنا دوام الشقاء ولها طول البقاء!. 

إسرائيل، والحال هذه، إختارت بديل السلام، من خلال تشجيع نمو الحركات المتطرفة وخلق الظروف الموضوعية لتمكينها من السلطة والنفوذ لعلمها بأن هذا النوع من التيارات سيدخل حكماً في تناقضات وصراعات أهلية وسيوجه سلاحه إلى داخل مجتمعه كما فعلت حماس مع فتح في غزة والضفة وكما فعل حزب الله في لبنان بعد إغتيال رفيق الحريري وإثر 7 أيار ثم الإنخراط السلبي الشامل في ملفات الإقليم!. 

لا مصلحة لإسرائيل حتى الآن في السلام والتطبيع ومجتمعها أيضاً غير مُهّيء لذلك، والتطرف اليميني هو الحاكم اليوم، هذا التطرف كان قد إغتال إسحاق رابين على يد الإرهابي ( إيجال عامير) لأنه وقّع إتفاقية سلام مع الفلسطينيين، ليكون رابين بذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي الوحيد الذي يقضي إغتيالاً بسبب السلام. 

لا مصلحة لإسرائيل بعد في السلام والتطبيع وهي التي قابلت مبادرة السلام العربية المُوقعة من كل قادة الدول العربيّة عام 2002 بوقاحة وتجاهل ورمت بها عرض الحائط بل وتزامناً مع ذلك تعمّدت إزدراء الفلسطينيين والعرب أجمعين وحرّكت أرتالها العسكرية لإحكام الحصار على مقر الرئيس الراحل ياسر عرفات في رام الله. 
***
بالمقابل وللتذكير، وقبل غزو العراق وتوالي الإنهيارات في المنطقة وبروز الهويات الفئوية وتَعمْلُق الدويلات وتَحَلُّل الدولة الوطنية، كان العرب قد تقدّموا لإسرائيل بمبادرة سلام هدفها إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين والإنسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل الإعتراف وتطبيع العلاقات في إطار إتفاق شامل. 
الآن، وعود عن بدء، وبعد كل ما جرى وكان، هل يمكن التطبيع ؟


ما الذي يمنع التطبيع، رغم التضحيات والآلام، إذا كان ثمّة شعب واثق بهويته ورسوخ جذوره في هذه الأرض وبإنتمائه ودينه، ولماذا قد يتردد مثل هذا الشعب أو يرفض إقامة علاقة " طبيعية " مع طرف آخر حتى وإن كان عدواً محتلاً، إذا قضت بذلك المصلحة العامة والظروف التاريخية ؟ 

ما الذي يمنع التطبيع إذا كان سياقاً لقضيةً نضالية تؤدي إلى الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتحفظ له كرامته الإنسانية وحقه في بيته وأرضه دون إعتداء أو إبتزاز، وكذلك إعترافاً بالمقابل بحق الشعب اليهودي في الحياة والوجود في فلسطين، وإذا كان يعني شجاعةً تاريخية من كل الأطراف بالوقوف على أخطاء الماضي وإيجاد مخارج لها وحلول، وإستقراراً وتنمية وتقدماً وإزدهاراً لشعوب المنطقة، وإنتصاراً لتعايش الرسالات الإبراهيمية التوحيدية الثلاث في مهدها وتعزيزاً لجهودها في مواجهة الإنعزال والتطرف والإرهاب، وإقراراً بحق الجميع في ممارسة شعائره دون أية قيود على حرية المعتقد وسائر الحريات الشخصية والعامة كحرية التملك والتنقل وغير ذلك. 

أمّا الوجه السلبي للتطبيع فيكون إذا أُريد تمريره بصفقة عابرة فارغة من أي مضمون أو فَرْضاً لشروط وأوهام جديدة، حالئذٍ، ليبق كل شيء معلّق على أرصفة الأيام القادمة، فليست شعوب العرب الولاّدة على عجلة من أمرها رغم المرارات، ولعلّ البعض يدرك أن الذين حافظوا على مفاتيح بيوتهم ومشاعل قضيتهم لمئة عام قادرين على البقاء والصمود لمئة عام أخرى بل حتى إنقراض آخر مُعتدي. 

يرى متربّص كئيب أنّ " التطبيع " يؤدي إلى قيادة إسرائيل للمنطقة في إطار ما يسمى الشرق الأوسط الكبير، وأن فيه تسليم بالتفوّق الإستراتيجي " للكيان الصهيوني" على حد تعبيره، ومحاصرة لأي محاولة لمنافسته إقتصادياً وعسكرياً، وكذلك توقيعاً على وثيقة الموت الطوعي للمشروع العربي ولمشروع " التحرر والإستنهاض"، وأن التطبيع هو إستباق للمستقبل وقتل لأي أفق قد تتغير فيه موازين القوى لصالح العرب. 
وإذ أنقُل رؤيته هذه أكتفي بالإشارة إلى أنني أرى فيها إنعدام ثقة بالذات وإنكفاءاً وهروباً وإقراراً ضمنياً منه _وهو الممانع_ بالعجز والهزيمة. 
***
هل الشعوب العربية _ رغم كل شيء_ تريد السلام والتطبيع على أساس منطوق المبادرة العربية عام 2002 ؟
أقترح إستفتاء شعبي "رِفيرندوم "، بحضور وإشراف الهيئات الرقابية من الأمم المتحدة ومؤسسات المجتمع المدني، يتم شرح مضمون مبادرة السلام العربية، والهدف منها، ويُطلب من هذه الشعوب في كل الأقطار التصويت عليها بنعم أو لا. 
هذه قضيّة للنقاش لإتصالها مباشرة بحاضر المنطقة ومستقبلها، وبغضّ النظر عن مآل الأمور، فالأهم إعتياد الركون لثقافة إحترام إرادة الأفراد والجماعات _ كما هي _ بعيداً عن إدّعاء مصادرة الرأي العام أو الإستقواء بالسلاح لكمّ الأفواه ترهيباً وتهويلاً وشيطنة.