لم نتمنى أن تتفاقم النزعات الطائفية والقوموية في العراق، ولم نبادر في إثارتها، خصوصاً بعد سقوط الديكتاتورية المتمثلة في عهد النظام البعثي (1968-2003م). وعندما عدنا الى بغداد، أرسلنا خيرة سياسيينا الكرد وعلى رأسهم "الطالباني"، الذي عمل بنحكته السياسية وشخصيته الكاريزمية، المستحيل والمستحيل لتبقى الأطراف المتنازعة والخصماء على التواصل و يظل البلد في أجواء آمنة سياسياً ينعم بهامش من الأمل بالمستقبل رغم كل التحديات الأمنية والخلافات السياسية التي أهلكت البلاد والعباد.
وبعكس العقليات العنصرية والطائفية، كُنا نشتغل طيلة السنوات الماضية على نشر ثقافة التعايش والأمل والصمود أمام التهديدات الخارجية والصراعات الداخلية الخانقة على السلطة والثروة، وكنا نُذكَر العراقيين دوماً بأننا قادرون على تجاوز الظروف العصيبة التي يمر بها العراق الجديد لأننا محكومون في النهاية ببناء الثقة والتفاهم والتوافق مهما كلف الأمر، ويمكننا أن نذلل تدريجياً كل العقبات والإخفاقات التي نشهدها بسبب غياب العزم والإرادة والوطنية لدى النخبة الحاكمة من جهة، و تورط مسؤوليها بملفات الفساد والممارسات البعثية في اقصاء مكونات البلد، من جهة أخرى.

كُنا نؤمن فعلاً بتعزيز الإرادة وتقويتها في التعاطي مع الواقع الناتج عن نهاية الدكتاتورية (2003م) و كنا ندعو الجميع الى الإحتكام الى العقل في إدارة أمور البلاد، وفعل الممكن والمستحيل لتحقيق التعاضد والتكاتف إذا ما أردنا فعلاً إحداث التغيير في البنى السياسية والثقافية والسايكولوجية الموروثة والقابعة على سلوكنا وأذهاننا وبواطن عقولنا، والتي نعلم انها تتحكم، منذ عصور وماتزال، بخطاباتنا الساذجة وتدابيرنا الفاشلة، بحيث تجعل النخب الحاكمة المتعاقبة في النهاية وبسببها، عاجزة تماماً عن أي قطيعة مع الماضي ومُفكِكة لكل أواصر الوحدة والإتحاد، أو الإجماع والإجتماع، وبالتالي تحويل الغالبية العظمى من أبناء هذا البلد، المصطنع أصلاً من قبل الإستعمار!، الى شخصيات ازدواجية مُصابة بشيزوفرينيا سياسية، هي المُراوحة بين الإنتماء للبلد- خوفاً من السلطان الجائر- وتمني خرابه وسقوطه من القلب للتخلص من هذا الأخير!
مر الزمان و تبين لنا بالتجربة بأننا نعيش في وهم كبير فعلاً، و أن العراق هو هو، لايتغير في ظل هذه النخبة الحاكمة، والطائفية هي عنوان المآل والمنال، وكل من يحلم بزوالها لايحصد سوى الإقصاء والتهميش وعليه أن يرضخ لمنطقها وسلطانها الداهم على كافة مناحي الحياة ومؤسسات الدولة، لاسيما في ظل غياب الحد الأدنى من المناعة النظرية والأخلاقية التي تشترط تفادي الإصابة بعدوى النزعات البالية لدى كل مجتمع غير محصن علقياً وغير متفاعل مع منجزات الحداثة الفكرية واالتنوير. كما وظهر لنا على المستوى السياسي أن مباديء الشراكة والتوافق ذهبت كلها أدراج الرياح و لم يبقى أمام الكُرد سوى خيار القبول بأمر الواقع!، أي القبول بهيمنة نخبة سياسية طائفية تعمل بخفاء على إذلال وإرضاخ الكل والسيطرة على عموم البلاد والعباد بمشاريع طائفية مدعومة إقليمياً، ووقوع كل ذلك دون أن يكون هناك أي رادع حقيقي توقِف هذه المشاريع الجهنمية، لاسيما بعد التدمير المبرمج للمكون السني في العراق وتخريب مناطقهم كاملةً بحجة الحرب على الإرهاب، وأنتهاز فرص تمرير الزحف شيئاً فشيئاً نحو كردستان العراق للسيطرة على هذه الأخيرة ايضاً وإخضاعها لمنطق الحكم الطائفي..
ولكن نحن الكرد سرعان ما أستدركنا هذه المخططات قبل الشروع فيها وتطبيقها!، وفهمنا أن مرحلة مابعد زوال داعش، الذي شاركنا بدماء أبنائنا في محاربته والتخلص منه، ستكون مرحلة المواجهة مع الكُرد بإمتياز وأن الدخول في الحرب بات أمراً شبه حتمي، لا سيما مع الرغبة العارمة لدى هذه النخبة في السيطرة على محافطة كركوك، ذات الغالبية الكردية، والتي لاتعني في النهاية سوى إستخدام العنف والقوة العسكرية لفرض الإرادة وضرب أي شروط للتفاهم والتفاوض بشأنها، أو كل ما يمليه الدستور على الجميع لحل الخلافات والمنازعات السياسية.
نعم كُنا نعلم بأننا مقبلون على هذه المواجهة وأن النخبة الطائفية الراهنة في بغداد لا تأبى أي شيء لاسيما في ظل صمت عربي مُخَيب للآمال ومُشجع لجعل هذا البلد ساحة مفتوحة لتنفيذ مخططات طائفية بل مسمومة بأجندات خارجية لاترتبط لا من قريب ولا من بعيد بمصالح الشعب العراقي و مكوناته ولاتقف فقط عند حد محو هوية كل هذه المكونات المجتمعية في البلد فحسب وأنما ستطال دول أخرى مستقبلاً..
وبهذا المعنى إذن، على الجميع أن ينفتح علينا ويفهمنا ويدرك بأن هذا هو سر اللجوء الى ممارسة حق تقرير المصير وإجراء استفتاء الإستقلال، الذي كُنا فعلاً بأمس الحاجة اليه ليشهد اليوم معنا العالم بأسره مع أي عقليات نعيش نحن؟! و مالفرق بين الممارسات البعثية والقرارات الطائفية التي تُتَخذ الآن- وفي عراق مابعد الدكتاتورية!- بحق الكُرد لا لشيء آخر سوى لأنه فوض قياداته لجعل الإستقلال خياراً آخر من خياراتها السياسية وليس الإعلان عنه مباشرةً، ولاشك بأن هذا الحق والتفويض هو ممارسة طبيعية لطقس من طقوس الديمقراطية ليس إلا، وأن هذا الحق هو منصوص عليه في كافة المواثيق الدولية و كل البنود الواردة في لائحات حقوق الإنسان؟ ثم أن وحدة العراق أرضاً وشعباً، هي الأخرى، لاتأتي من الفراغ! الأمر يبقى مشروطاً بمدى الإلتزام بدستور البلد، وقد ورد ذلك بكل وضوح في الدستور نفسه، إذن الطرف الذي لايلتزم به هو المسؤول عن حال البلاد والعباد وليس المحكوم عليه أو الطرف المُستبعد عن الحكم وقرارات الدولة.. وعليه نقول هنا وبكلمة: هم فعلوها- وأعني هنا النخبة الطائفية الحاكمة في بغداد- ونحن أردناها!، فالطائفية هي التي تقسم العراق وليس ضحاياها..!

• باحث و إعلامي من كردستان العراق