«أنا قتيل العبرة»، قتيل الاسف والأحزان المبتلعة.. قتيل الدموع التي لم يكن مقدرا لها الا ان تسيل.

مفردة «العبرة» في القاموس العربي تعني (ألم الروح ووجعها قبل ان تفيض العين بالادمع) انها رعشة الفؤاد الرقيق يليها الاجهاش بالبكاء يليه هطول الدمعالدمعة .. وهذه العبارة منقولة عن الحسين بن علي سيد الشهداء في يوم عاشوراء.

قبل زمن، وفي ايام لم تكن قد اصاب التلوث فيها الشعائر الدينية ومنها عزاء الحسين في شهر محرم الحرام كما يحدث اليوم من قبل الملالي الحاكمين المشوهين والملوثين لدين الله ورسوله في إيران بايديهم واعمالهم ومخططاتهم ونهجهم وبيد واصوات المنشدين والمادحين من اتباعهم وهم في اغلبهم من الجلادين ممارسي التعذيب في السجون الإيرانية. 

نعم في تلك الأيام وفي العقد الأول من شهر محرم، كان الرجال والنساء شيبا وشبابا يحملون همومهم واحزانهم وألمهم باخلاص ونقاء وطهر في قلوبهم وكامل وجدانهم. وإنني هنا في هذه العجالة لا اكتب فقط ناقلا او محللا بل اكتب كعارف ومتعايش مع تلك الايام والاحداث وحال الانفس وواقع الامر وعارفا لصاحب تلك الايام النبيلة التي خلت ولن يخلو منها الحال بفضل الله وبركته والخير الذي اراده ان يبقى في عباده.

قبل خمسة وستون عاما وفي جامع كان في حينها "قيد الانشاء" في جنوب طهران.،وكنت حينها طفلا في الثالثة او الرابعة من العمر .. حيث لم أذهب إلى المدرسة بعد.. وأبي رحمه الله في حينها شاب في الثامنة والعشرين من عمره،يسمونه «كرب علي آقا» أي «علي الكربلائي» وهو يصعد على كرسي صغير ليؤدي وينشد «رجز» (وهو بحر من بحور الشعر الفارسي والعربي) في مدح الامام الحسين . 

التف بخشوع واذعان واخلاص حول هذا الكرسي وحلق رجالا بملابس سوداء.،والأب يؤدي وينشد ويصرخ بصوت عال جاف متعب ليسمع الشيوخ الذين كانوا يلطمون جلوسا في نهاية المسجد، والـ «رجز» ينشد دائما بشكل وصوت حماسي، فالرجز بفتح الجيم هو داء يصيب الابل ترتعش منه أفخاذها عند قيامها ولذلك أطلق على هذا البحر من الشعر رجزا لأنه تتوالى فيه الحركة والحماسة والسكون، ثم الحركة والحماسة والسكون وهكذا، وكانه هنا ساحة حرب.. وكأن الجمع يقول «هل من مبارز»..

في تلك الايام لم يكن يوجد ميكروفون ومكبرات صوت في المساجد العادية.. هذه الاشياء تجدها فقط في الاماكن الفاخرة.، يصرخ أبي باللغة الأذرية «تشنه سو كنارينده لبلره سلام اولسون» «السلام على الشفاه العطشى بجانب الماء»!!واما أنا الطفل ذي الثلاث او الاربع سنوات فقد كنت حائرا ضائعا تائها وسط هذا الحدث وهذا اللزحام وهذه الجموع المحتشدة المتفاعلة شيئا من الحماسة يليه سكون وبكاء وادمع واخلاص يتجلى لله لرسوله وال بيته ، ضائع وسط الزحام بين هذه الجموع، كنت القي نظرة على الاب تارة.. وتارة اخرى على الجموع المتشحة بالسواد الجليل .. وكنت افكر بيني وبين نفسي: مَن هؤلاء الأشخاص؟ ولماذا هم عطشى؟ وهل يعقل ان يكون احدا بجانب الماء ويكون عطشا؟!! ولماذا لم يشربوا من هذا الماء؟..ولماذا «ابي» عصبيا منفعلا الى هذا الحد وكانه يتشاجر مع شخص ما؟!! وكنت اخاطب نفسي قائلا: عند وصولي إلى البيت سأسأل «أمي»، لأن «أبي» ليس لديه الوقت الكافي ليرد على اسئلتي البسيطة.. فمن الواضح انه مشغول جدا!

وكان االشطر الثاني من «الرجز» اكثر غرابة: «السلام على الابدان التي تمتقطيعها والتمثيل بها...». وكان الاخرون يرددون ويكررون هذه الكلمات..اما انا فكان وجداني يضغط علي.. وفي الوقت الذي كنت احاول ان اتظاهر باللطم مقلدا الكبار، كنت افكر في داخلي وأتسائل بعقل طفل اقتحم حدث اكبر منه حدثا يربك كبار العقول: لماذا تم تقطيع هذه الابدان ؟ لماذا مثلوا بها؟ ولماذا علينا ان نسلم على هذه الابدان؟ من كان هؤلاء؟ كم كان عددهم؟ لماذا ذهبوا هناك؟ و يستمر ابي ويستمر احياء الذكرى والشعيرة باخلاص.. وبعد ان اكملوا عادادراجه الى البيت.. وكنت اركض برجلي الصغيرتين خلفه في الأزقة الضيقة المظلمة في طهران القديمة المؤدية إلى دارنا في شارع صغير بجنوب المدينة، وكان ابي يمشي دائما بسرعة وأنا عاجز عن اللحاق به.

اذكر ان تلك الأسئلة كانت تدور في ذهني وهي التي اثارت حفيظتي الأولى لتعلم القراءة والكتابة... وبعد ثلاث أو اربع سنوات وعند ذهابي إلى المدرسة الابتدائية وفي فترة قصيرة قرأت اول كتاب في حياتي: «بساط كربلاء، مجموعة اشعار ومراثي عباسقلي يحيوي». وكان يكفي أن اتمكن من قراءة أو فهم اول كلمة من الشعر.. لأن المتبقي كنت احفظه.. وكنت اقارن بين ما احفظه وما كان مكتوبا في الكتاب. (الشاعر المذكور رحل إلى جوار ربه في العام1979).

ومضت سنوات وكبرت.. ووجدت ضالتي ردا على اسئلتي واستفساراتي المشروعة في تلك الأيام والاجابة على تساؤلاتي .

نعم.. حكام جائرون يجوعون شعبهم ويعطشوه ويعذبوه ويقتلوه.. وكان علي ان انتظر فترة لأعرف ما تعنيه «الحكومة الفاسدة».. وعرفت الحكام الذين يحرمون الناس في بلدي من الحرية ويقتلون من يناضل ويقاتل في سبيل شعبه وعزته وكرامته. 

وفهمت عند هذه النقطة.. لماذا يسمون الحسين «سيد الاحرار». وكان سبط النبي وابن علي وفاطمة الزهراء الذي كان دخل تحت الكساء مع «فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها» مع الروح الأمين جبرائيل، والحسين سيد الاحرار الذي رغم علمه ومعرفتهبمكانة وقداسة الحج وأهميته، الا انه غادر قبل ان يكمله، ليذهب في طريقالنضال والجهاد منتصرا للحرية والكرامة ضد الظلم ومعه في هذا الطريق المليئ بالكرب والبلاء نفر قليل من أنصاره ليقف مع هذه القلة من الانصار أمام افواج العدوان والطغيان والحكام الظالمين صارخا باعلى صوته «لا» لا قولا وعملا وتضحية!

لقد اخذ الامام الحسين معه في هذا السفر جميع المتعلقات العادية لحياة اي انسان، واصطحب معه الاطفال الصغار، الى اشقائه وشقيقاته واولادهم والذين كانوا الأعز والاقرب الى قلبه.. فيما كانت دعايات جلاوزة ذلك الوقت تصوره واتباعه بـ"الخوارج" أي «الخروج على دين الرسول». وكان النضال بين الحرية والرجعية تماما كما يحدث اليوم.. وما اشبه اليوم بالبارحة.. كان الحسين يصرخ «ان لم يكن لكم دين فكونوا احرارا في دنياكم».. وقد استطاع الحسين من خلال انتصاره للحرية تأسيس بعد ثوري انساني ضد كل انواع الظلم والاستبداد في جوانب الحياة كافة، وذلك من خلال التضحيات الجسام، حيث ضحى بدمه الشريف مع اصحابه واهل بيته، وعرّض نساءه للسبي على يد القوم الظالمين المعتدين . وكانت التضحية والشهادة هنا مقترنة بالروح الحرة المؤمنة الطاهرة وهي اهم واعظم الدوافع للثورة والنهضة الحرة في وجه الاستبداد والعبودية بكل اشكالها .. ثورة تصبح اساسا للحياة الكريمة المستنيرة.

وعندما كبرت اكثر، شاهدت وسمعت صدى صرخة الحسين بعد ألف واربعمائة سنة، هذه المرة كانت على لسان مسعود رجوي قائد المقاومة الإيرانية وفي حينها كان شابا مسلما مؤمنا بعمر الثلاثين قضى سبع منها تحت ابشع انواع التعذيب في سجون الشاه، ​حيث كان يقول «نعم للاسلام ولا للرجعية» وحين كان يؤكد في أول اجتماع لمجاهدي خلق بعد ما يسمى بـ«الثورة» في إيران في العام1979، على «الحرية الكاملة للرأي والتعبير والاعلام والاحزاب وجميع الاجتماعات السياسية والنقابية من كل اعتقاد ورأي». و حين كان يعتبر الحرية «ضرورة لاستمرارية الانسان في مكانته ومنصته الانسانية دون قيد أو شرط».

إن هذا الوقوف على مبدأ الحرية كان بالنسبة له استنارة بطريق الحسين وثورته وفكره وعقيدته و نضالا كنضال الحسين وكان ثمنه باهظا جدا. وكان يقتل مع كل شهيد يشعر بانه هو الذي تم قتله وتقتله العبرات على كل شهيد.. وبدلا من انيبكي على جنازة الشهيد كان يحول الابدان العزيزة المتوفاة إلى ذخيرة للنضال ضد الظلم ويرحب بهذا عن طيب خاطر.. بحزن مبتلع.. اسنان ضاغطة على كبد متعب طوال الاعوام يرافقها الأمل والانتظار لفجر تبزغ منه الحرية في إيران وخلاص شعوب المنطقة من دنس النظام الذي جاء بالخراب والويلات والتفرقة والقتل والنهب منذ مجيئه واغتصابه لثورة الشعب الايراني لينشئ مجتمعا تتمحور ذاكرته في مجمله حول القهر والجهل والكبت والسجن والتعذيب..

والسلام عليك يا قتيل العبرة يا ابا عبدالله. والسلام على المستنيرين بك على طريق الله. 

* خبير ستراتيجي إيراني معارض يقيم في باريس