في أواخر صيف عام&1967، بعد مرور بضعة أشهر على الهزيمة النكراء، انطلق الدكتور عبد الرحمان بدوي الذي كان قد غادر مصر في أواسط الخمسينات، رافضا التدريس في جامعاتها في ظل نظام عبد الناصر، إلى مدينة بنغازي الليبية للتدريس في جامعتها.&وقد استهل نشاطه العلمي بمحاضرة ألقاها في الخامس عشر من شهر نوفمبر-تشرين الثاني من العام المذكور تحت عنوان&:”تأملات في الحضارة العربية".وبعد أن استولى معمر القذافي على السلطة في خريف عام&1969، أصبح د.&عبد الرحمان بدوي ملاحقا من قبل أجهزة الاستخبارات الليبية باعتباره"رجعيّا"، و"مناوئا لنظام عبد الناصر".&وخلال فترة ما سماها القذافي ب"الثورة الثقافية"،&&داهم رجال الشرطة شقة د.عبد الرحمان بدوي ليساق إلى السجن، ويتمّ الاستيلاء على وثائقه الخاصة.وكانت محاضرة&"تأملات في الحضارة العربية"&من بين تلك الوثائق.

وفي عام&2015، قام سالم الكبتي الذي كان يمتلك تسجيلا لتلك المحاضرة بحكم عمله كموظف في جامعة بنغازي بنشرها تحت عنوان&:”المحاضرة الضائعة" .

وقد تضمنت هذه المحاضرة أفكارا مهمة للغاية عن منزلة الحضارة العربية في التاريخ الحضاري للإنسانية جمعاء، وعن ما تميزت به عن الحضارات الأخرى، لكن علينا أن نشير في البداية إلى أنها-أي المحاضرة-تضمنت أخطاء وثغرات يجدر بنا الإشارة إليها.&وأول هذه الأخطاء هي تلك المتعلقة بأسماء بعض الشخصيات الفكرية والفلسفية.ومن المؤكد أن ذلك يعود إلى أن سالم الكبتي اعتمد على تسجيل صوتيّ قد لا يكون واضحا تماما في بعض الفقرات.مع ذلك كان عليه أن يستعين بالعارفين لكي يتم تلافي مثل هذه الأخطاء، وتصويبها احتراما لصاحبها الذي أفنى عمره في خدمة الثقافة العربية والرفع من شأنها.&فمثلا الألماني ادوارد شبينغلر&صاحب الكتاب الشهير"&تدهور الحضارة الغربية"، أصبح في"المحاضرة الضائعة"&يدعى&"&ادوارد شتلر"&مرة،&&و"شتيلنجر"&مرة أخرى.وهايدغر أصبح"&هيجر"، والمستشرق اليهودي المجري غولد تسيهر أصبح"جولد ستهير"، والمستشرق الفرنسي المعروف ماسينيون، صاحب أرفع مؤلف عن الحلاج ، أصبح&"ماسينيو"،والفرنسي الآخر جوزيف&&دوميستر الذي ناهض الثورة الفرنسية، وبشدة انتقد زعماءها أصبح"جوزيف ديمتر"، والشاعر الفيلسوف اليوناني بندار أصبح"فندار".&&بل أن بيت عنترة بن شداد الشهير"هل غادر الشعراء من مُتَردُم"&لم يسلم من التشويه ليتحول إلى"هل غادر الشعراء من متروم"...

أمّا الثغرات الأخرى فهي تتعلق بالأفكار التي أوردها د.&عبد الرحمان&&بدوي حول منزلة الحضارة العربية في التاريخ الإنساني.&وظني أنه لا أحد ينازعه في قوله بإن هذه الحضارة عرفت بين القرن الثامن، والثاني عشر انفتاحا هائلا على الحضارات الأخرى ، خصوصا على الحضارة الإغريقية، إلاّ أنه توقف عند هذا الحد من دون أن يحاول البحث في الأسباب التي أدت إلى تقوقعها وانكماشها ثم إلى موتها ليظل العرب"خارج التاريخ"&إلى حد هذه الساعة.ومعنى هذا أن د.&عبد الرحمان بدوي العارف جيدا بالجانب المهم في الفلسفة، أعني بذلك الفكر النقدي، أهمل هذا الجانب اهمالا تاما، مكتفيا بتمجيد الخصائص المشرقة في الحضارة العربية.&وفي هذا المجال هو لم يقدم ما يمكن أن ينفع وبضي ويخرج عن دائرة التكرار العقيم والممل.

وعلى حق د.&عبد الرحمان بدوي عندما يشير إلى أن الحضارة العربية هضمت الفكر اليوناني جيدا.&ومؤلفات ان رشد، وابن سينا، والرازي والفارابي والمعتزلة خير دليل على ذلك.&لكنه على خطأ عندما يعتقد أن الحضارة العربية هضمت الفكر اليوناني أفضل مما فعلت الحضارة الغربية الحديثة.&ولو كانت الحضارة العربية هضمت الفكر اليوناني بشكل عميق وجاد لما مات الفكر الفلسفي عند العرب، ولما تجمد الفكر النقدي عندهم كما هو حالهم الآن.&أما الحضارة الغربية فلا تزال تقر بفضل الحضارة الإغريقية إلى حد هذه الساعة، ولا يزال مفكروها وفلاسفتها وعلماؤها، وحتى كتابها وشعراؤها، يعودون إلى العصر الإغريقي ليساعدهم على ابتكار على ما يضمن لهم ابتكار أطروحات وأفكار تنير له الحاضر والمستقبل.&وكان هايدغر يقول بإن الفلسفة الإغريقية هي المصدر الأساسي لكل التيارات الفلسفية والفكرية التي عرفتها أوروبا منذ عصر نهضتها وحتى هذا الزمن الذي تمكنت فيه من بسط نفوذها على العالم بأسره، مُتَفوقة بذلك على كل الحضارات التي سبقتها.&وقبل هايدغر كان فلاسفة غربيون آخرون قد أقروا بهذه الحقيقة أمثال ديكارت، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، ونيتشه، وكيركوغراد، وهيوم...

الأمر الثاني الذي يقدم الدليل القاطع على أن هضم الحضارة&&العربية للفكر اليوناني لم يكتمل ولم يترسخ ليصبح عنصرا فاعلا فيها ،ومنصهرا في منظمتها الفكرية هو أن الفكر الأصولي الرجعي المتمثل في ابن تيمية تحديدا هو الذي انتصر في النهاية ليهيمن على العالم العربي&-الإسلامي منذ القرن الثاني عشر وحتى هذه الساعة.&وقد يشهد هذا الفكر&-أعني الفكر الأصولي الظلامي-فترات تراجع، وانحسار مثلما كان حاله في عصر النهضة وحتى الستينات من القرن الماضي، لكنه سرعان ما يعود بقوة أشد من ذي قبل ليغزو المجتمعات متحولا إلى سلطة رادعة ومناهضة لكل شكل من أشكال الحرية والتعددية الفكرية والسياسية وغيرها.

ولم يكن الفقهاء الأصوليون والظلاميون هو وحدهم الذين تصدوا للفكر العقلاني اليوناني، بل عاضدهم في ذلك مفكرون وفلاسفة كبار أمثال الغزالي وابن خلدون الذي خصص فصلا كاملا في&"مقدمته"الشهيرة اختار له عنوانا موحيا للغاية، ألا وهو"&في ابطال الفلسفة وفساد منتحليها"، وفيه شن هجوما قاسيا على فلاسفة اليونان وأتباعهم من العرب، محاولا دحر نظريّاتهم ب"الحجة والدليل"،مظهرا أن الاعتماد على العقل وحده يفضي إلى&"الفساد".&ولعله يعني ب"الفساد"&هنا نقد المسلمات الدينية والفقهية التي كُفر بسببها البعض من الفلاسفة الذين تأثروا بالفكر الفلسفي اليوناني.&كما أنه اعتبر كل فلسفة"مخالفة ل&"الشرائع وظواهرها".&لذلك دعا إلى أن يكون الناظر فيها"&مُتحرّزا جهده من معاطبها".

ويقول د.&عبد الرحمان بدوي بإن العرب لم يتأثروا فقط بفلاسفة الاغريق، بل أيضا بشاعرهم الكبير هوميروس.ومقدما دليلا على ذلك، يروي أن شيخ المترجمين حنين ابن اسحاق كان وهو فتى صغير يتجول في شوارع بغداد وهو"يترنم بشعر هوميروس".&ويضيف قائلا بإن تلك الظاهرة تدل على&"مدى نفوذ هذا الشعر في أوساط الشباب آنذاك".ونحن لا نحتاج إلى أدلة كثيرة لدحض مثل هذا الرأي لنقول أولا بإن حنين ابن اسحاق كان مسيحيا.&ويعني هذا أن تأثير شاعر مثل هوميروس عليه لم يكن أمرا غريبا.&ويمكن أن يكون هناك شبان من المسيحيين كانوا يترنمون بشعر هوميروس في شوارع بغداد.&إلاّ أن الشبان العرب المسلمين لم يكونوا في حاجة إلى ذلك لأنهم ينتسبون إلى&"أمة الشعر"&التي لا مثيل لها لا في في الماضي ولا في الحاضر.&ثم أن هذه الأمة تعتقد أنها تملك من الشعراء ما يغنيها عن شعراء الأمم الأخرى.&ولو كان لهوميروس تأثير فعلي وحقيقي على الشعراء العرب لعثرنا على واحد أو أكثر منهم تعكس قصائده مثل هذا التأثير الذي أكده د.&عبد الرحان بدوي.&لكن حين يتبين لنا أنه لا وجود لأي شاعر من هذا الصنف&&الهوميروسي،&&فإن ادعاء ذلك يصبح باطلا،&&ومجرد مفاخرة لا معنى ولا سند لها.