أثارت الصدفة التي تزامن فيها إفراج السلطات الاسرائيلية عن الناشطة الفلسطينية عهد التميمي بعد ثمانية أشهر على اعتقالها بتهمة صفع جندي اسرائيلي، مع إبلاغ سلطات النظام السوري في دمشق أهالي معتقلين لديها بموت أبنائهم في السجون، انقسامًا حادًا في الرأي في الأوساط الإعلامية والسياسية، وسط مقارنات بين أحوال السجناء في السجون الأسرائيلية ونهاية المعتقلين في أقبية التعذيب السورية.

ولسنا هنا في مقام إجراء مفاضلة بين درجات العنف والساديّة وانتهاك حقوق الإنسان، ولكن الملفت للنظر حالة "الفصام" التي يعاني منها الرأي العام وهي حالة تأييد الشيئ وضدّه في الوقت عينه، والتي تَجَلّت من خلال ردود الفعل الرسمية وغيرالرسمية بما فيها ردود أفعال المثقفين والإعلاميين والتي تعكس حالة شيزوفرينيا مخيفة.

فهذا "يساري" و "عروبي" وآخر "ممانع" مناضل يقاوم من أجل قضية عهد التميمي وغيرها ممن يتعرض لانتهاكات في السجون "الصهيونية"، فيما هو في الوقت عينه يقبّل أحذية الطغاة في بلاد تقع كلها تحت الأسر، وليست سوى معتقل كبير لشعوب محرومة فيه من أبسط حقوقها الانسانية، وربما حال عهد التميمي في سجنها الظالم أفضل من حالهم "كمواطنين" يقبعون تحت حكم ديكتاتور في ظل شبح الخوف الدائم والذعر المسيطر على كافة مناحي الحياة اليومية.

وبعد أن أدلت التميمي بشهادتها بكل عنفوان وثقة عن وضعها خلال السجن، حيث انتظمت في الدراسة وحازت على شهادة الثانوية العامة، مشيرة الى التحاقها بصف يعني بالحقوق المدنية والانسانية، كما كانت تشارك صديقاتها السجينات بالآراء خلال أوقات الطعام ؛ فإن مُجرد الاستفسار عن مكان اعتقال المختفين قسريا قد يؤدي الى اختفاء السائل عنه أيضا.&

ان صدور القائمة التي تفيد بتأكيد الحكومة السورية في سجلاتها الرسمية مقتل ما لا يقل عن 161 شخصاً عُلم بإخفائهم قسراً منذ بداية الصراع في 2011 احدثت صدمة عامة، وهي لم تقنع أحدا بأن سبب موتهم هو "الوفاة الطبيعية" كما جاء في التقرير، حيث يرجح معظم الناشطون وغيرهم ممن يعرفون هؤلاء المساجين الشبان بأن سبب الوفاة إما الاعدام بقرار من أمن النظام أو القتل تحت التعذيب.

كذلك اسرائيل ترتكب انتهاكات جسيمة بحق الطفولة وقد وثّقت المنظمات الحقوقية العالمية ومنها امنستي "ملاحقات الجيش الإسرائيلي لمئات الأطفال الفلسطينيين في المحاكم العسكرية كل عام، وتعريضهم بشكل ممنهج لسوء المعاملة، بما في ذلك عصب العينين، والتهديدات، وعمليات الاستجواب القاسية دون حضور محاميهم أو عائلاتهم، والحبس الانفرادي، مع توثيق لحالات العنف البدني. كما تقوم المحاكم العسكرية بمحاكمة الفلسطينيين لانتهاكهم الأوامر العسكرية، التي يجرم العديد منها الأنشطة السلمية مثل التعبير السياسي السلمي، أو تنظيم وحضور الاحتجاجات دون إذن مسبق من أحد القادة العسكريين الإسرائيليين.فيما يوجد حالياً حوالي 350 طفلاً فلسطينياً في السجون ومراكز الاحتجاز الإسرائيلية. "

ولا يمكن لعاقل حكيم ان يفضّل جورًا على آخر في سلم انعدام الانسانية في عالم يتجه نحو الجنون واللاأخلاقية والوحشية التي تسيطر على العصر. إن تنامي حالات الثأر والانتقام التي نشهدها من خلال السحل وتعذيب اي كائن "ولو كان مجرمًا " - والذي هو إنسان في النهاية - إنما هو إقرار بانتصار "العنف والوحشية" وهو إقرار بالافلاس الاخلاقي، فعندما يجعلك عدوك او خصمك نسخة منه يكون قد انتصر عليك.

فجميع العالم يدين "داعش" وسلوكها الاجرامي، فيما معظم الأطراف تدعو للثأر والانتقام، او تبرر العنف والتعذيب بحق من يسمى خصما وهي بذلك تكرر السلوك نفسه !

&فالإنسان بحكم بشريته عليه ان يدين العنف وانتهاك الحقوق الآدمية أيًّا يكن مصدره وفضح الظالم أيًا تكن غايته؛ فلا يمكن ادانة انتهاك اعتقال الأطفال في فلسطين و غض النظر عن حال المعتقلين في سجون الدول الأخرى، ولا يمكن إدانة قمع وغطرسة الديكتاتورية في بلد ما و التصفيق لها في مكان آخر.

&فالحقوق الآدمية واحدة لا تتجزأ أيا يكن التوجه السياسي للإنسان. أما استراتيجية الكيل بأكثرمن مكيال لتبرير إضطهاد فئة من الناس لأخوة لهم في الانسانية ، فهي حالة انفصام حاد في الوعي التي تترجمها الولاءات العمياء للجهات الكبرى التي لا يهمها أحوال الشعوب التي تزج في أتون الحروب، فهذا ولاؤه لروسيا وآخر ولاؤه لأميركا.. وهذا " ولاؤه "للولي الفقيه" وآخر ولاؤه "للسلطان"... وكل ذلك لا يدع مجالا للشك أن البشرية تتجه نحو مزيد من الحروب المدمرة و العنف والخراب وربما الزوال.

إن هول المصائب وفظاعات الإبادة التي تتعرض لَها الانسانية في معظم أنحاء الدنيا بنسب متفاوتة، فيما يبدو المشهد في الشرق الأوسط والسوري الأشد سوءًا والأكثر وحشية، وَبغض النظرعن الجهات المسؤولة عن ارتكاب هذه الفظاعات، أدى الى إحساس بانعدام الأفق واليأس حيث ان محاولة إيجاد فرصة للعدل في مجتمع انخرط بداية في تعبير سلمي من اجل التغيير انتهى به المطاف الى جلب الشقاء الهائل للغالبية الساحقة من الناس وأدى إلى ترسيخ الديكتاتورية من جديد.

أسئلة كثيرة تطرح برسم إنسانيتنا جميعا حول كيفية تعاملنا مع الشر: فهل من منهج للتعامل مع الظلم المطبق بحيث يكون ذو قيمة و يمكن ان يوضع بجدية على أرض الواقع ؟ وكيف لنا أن نفسر تعذيب الأبرياء و اغتصاب الأطفال؟ وكيف لنا أن نعيش في وفرة فيما لا يمتلك ملايين البشر النذر الضروري اليسير؟

وكأن وجود إطار مفاهيمي الذي كان يجعل الحياة منطقية و "عادلة" الى حد ما بات معدوما !

نعم ان الشهادات الحيّة المروّعة من الناجين المفرج عنهم أحدث صدعًا في وعيّ قلة من الناس وربما هذا يبشر بولادة وعي جديد تكون الرحمة محوره التي تقتضي الانفتاح على الغير بما فيهم الخصوم. إن رصد الألم البالغ الذي تسبب به الجلادون يدفع بالوعي إلى درجة تجعلك ترفض ان تلحق بالخصم الألم نفسه الذي تسبب لك به. انه وعيّ حكيم يقتضي مغادرة العنف إلى غير رجعة فعندما لا تعامل خصمك بمثل العنف الذي يعاملك به فإنك تقلب المعادلة وتصبح زمام المبادرة في يديك.

نعم، ان الرحمة والنضال من اجل وقف العنف لا يتطلب من الانسان سوى الخروج من حال الفصام وان ينظر بعين واحدة الى المآسي البشرية دون مفاضلة او مواربة وان ينظر الى كل الدكتاتوريات بما فيها الفكرية بعين واحدة دون تبرير: ان صورة طفل جائع في أفريقيا لا تختلف عن صورة طفل يميني فقير، و صورة أم فلسطينية ثكلى لا تختلف عن صورة أم قضى ابناؤها تحت التعذيب في السجون ، وصور محارق اليهود في ألمانيا لا تختلف عن صور محارق الروهينغا في ميانمار، وهول الدمار الهائل للمدن الأوروبية ابان الحرب العالمية الثانية لا يختلف عن دمار حلب وحمص وحماه، و مأساة اللاجئ السوري في مخيمات اللجوء لا تختلف عن مأساة اللاجئ الفلسطيني... والأمثلة اكثر من أن تحصى..&

نعم ان كون قيم الإنسانية أضحت بهذه الندرة فإن ذلك يؤشر إلى ان مرحلة جديدة ستفتتح في المستقبل فإما أن تحل الرحمة ويعم السلام و إما فإن كوكب الأرض بكائناته البشرية المدمرة سيؤول إلى الزوال!

نعم يتحقق السلام والعدل عندما يعود الوعي البشري الى رشده ورحمته التي فُطر عليها وعندما يكف الانسان عن النظر الى المآسي البشرية بأنها منفصلة عنه وعندما يكف عن الاصطفاف خلف "الزعماء" و "الاشخاص" ، وعندما يكف عن تبرير الحروب والعنف أيا كانت غايتها.. ودوما يبقى الأمل بخروج الوعي البشري عن حالة الفصام التي يعاني منها!