مبللاً بشهوة الكلمات أقاومُ الكتابة، سبع سنوات، أو أكثر، وأنا على هذه الحال. لستُ ممن يتحدثون عن الجدوى كثيرا، لكن مفردة "الجدوى" دائما ما تضعني في مواجهة عمري الذي أفنيتُه في مواجهة الكتب؛ في تخيل قراء ما خارج الزمان والمكان كي أقول لهم ما كان يقوله رسول حمزاتوف: "كلا، ليس لي عمر. عمري ثانية واحدةٌ وعمري مائة قرن. في ذاتي سذاجة الطفل وعاطفة وطيش الشباب، وحكمة الشيخ. ليس لي عمر".
قبل أيام كنت في ضيافة صديق عزيز في مدينة جدة، شاهدنا فيلما اسبانيا يدور حول مجموعة غير متجانسة يدخلون حانة لدوافع مختلفة، قبل أن يكتشفوا أنهم محاصرون داخل الحانة بسبب وجود شخص يحمل وباء مميتا يسهل انتشاره لمجرد لمس المصاب، هذا المصاب الذي كانت تتبعه الشرطة حتى اذا ما دخل الحانة قررت السلطات تصفيته وتصفية كل من في الحانة معه لمنع انتشار الوباء. الفيلم، بما بين شخوصه من صراعات مميتة دافعها الخوف من الهلاك والرغبة في الحياة أعادني للسؤال الذي كنت أتجاهله كثيرا حول الجدوى. الإنسان؛ ذلك اللغز في عزلته، كما فيه تجمعاته وصراعاته، هل يولد إنسانا حقا؟ أم مجرد آلة بيضاء تتم عمليات تعبئتها لاحقاً ليصبح: آلة حب؟ أو حتى آلة قتل؟. المؤكد أن الإنسان ليس محايدا أبدا إلا في لحظة ولادته، ثم عليه أن يلحق بركب المتحولين.
إننا، غالبا، نفترض أن حياتنا محكومة بعدد من الصراعات والتقاطعات والمنافع المتبادلة. ربما لا يفكر أحد في أن هناك سيناريوهات أخرى للحياة، العزلة، على سبيل المثال، عبارة عن حياة تحاول تجنب التقاطعات؛ الألم وحتى الحب، لكنها حياة موجودة بوصفها اكتمالا كما يقول بول ريكور: "إن التوازي أكثر اكتمالا مما نتوقعه"، لهذا فظاهر الأمر أن ليس للإنسان عمر، وأن جدوى وجوده في هذا الكون مجرد خدعة ليستمر باتجاه مصيره النهائي.
القلّة هم من يكتشف أن هشاشة موت الإنسان وهلاكه لا تخفي وراءها كائنا ضعيفا وإنسانيا بأي درجة. في موت مفاجئ لشخص ما دون سبب ظاهر يمكننا ان نتحدث عن هشاشة حياتنا على هذه الأرض. حديث مترفٌ لا أكثر؛ كالحديث عن الثوار العظام، جيفارا مثلا؛ قبل أن نعي أنه كان مجرد قاتل وجلاد يقف على أبواب سجون الثورة لتصفية المعارضين!. ليس هناك حالة إنسانية ولا ضعفا يقف خلف الموت، هذا ما يتم كشفه فقط في اللحظة التي تنطلق فيها الرصاصة باتجاه رأس إنسان ما فتجعله يفكر، كضحية كانت تجهل هي ذاتها ماهية الموت، في أن الأمر معقد أكثر مما كان يتوقع. لحظة واحدة منذ انطلاق الرصاصة حتى السقوط ميتا يكتشف القتلى الحقيقة ولا يستطيعون أن يخبروا بها أحدا. يمكن تلمّس هذه الفاجعة على وجوه ضحايا الإبادة الجماعية في أي بلد من خلال لقطة وثائقية؛ (كفيلم وثائقي بلجيكي حول الإبادة الجماعية في أدغال الكونغو).
إذن، الإنسانية مجرد مزحة يكتشف زيفها من يقف لمواجهة الموت على يد الآخر دون أن يفهم السبب، ثم بعد موته يستمر الإعلاميون والساسة في الحديث عن الحقوق والحريات والمجتمع الإنساني. كما يستمر مغفلون آخرون باسم الفن والأدب في الحديث عن الإنسان وإنسانيته، تلك التي لا وجود لها أصلا إلا في مخيلاتهم القاصرة، ألم يقل جاك دريدا: "لابد أن يسهر جنونٌ ما على الفكر"، المفكرون؛ الكتّاب، الفنانون؛ أليسوا هم من أدمن تعاطي "ثقافة البروزاك" كما تقول لطيفة الدليمي، في إشارة منها إلى عقار البروزاك الذي يتعاطاه المرضى لتجاوز اضطراباتهم الذهانية المدمرة.
نعم، كثيرة هي التفاصيل التي تعيدني للحديث سرا مع نفسي عن الجدوى من العودة للكتابة، بعد أن توقفت، طوعا، عن نشر ثقافة البروزاك، وقبل ذلك عن تعاطيها، فالذهان الكامل يكمن في وهم أبدي مفاده أن الإنسان يولدُ إنساناً، وأن الفن يمكن أن يكون مجديا في علاج هذه الوحشية الطاغية، وأن للإنسان عمرا يمكن حسابه من خلال إنجازاته؛ تلك التي تسقط في لحظة فاصلة وجلية ترتسم على وجه القتيل منذ انطلاق الرصاصة وحتى سقوطه ميتا.
اليوم، "ليس لي عمر"، او إنني أريدُ "أن أُنسى في داخل الموت كاملاً" كما يقول اليوناني يانيس ريتسوس.