من يعرف العراق جيدا لاسيما المدن التي تحتوي على رمزية معينة وتضم المراقد المقدسة مثل النجف وكربلاء، يعرف ان خصوصية هاتين المدينتين كانت محفوظة ومحترمة حتى في عهد الاحتلالين العثماني والبريطاني، كما يعرف ايضا ان أهاليها يلتزمون بالحجاب تلقائيا كما يلتزم جميع الوافدين لها من عراقيين واجانب احتراما لرمزيتها ولتقاليد أهلها.

وهذا الحال هو السائد منذ مئات السنين وقبل ظهورالاسلام السياسي بنسختيه " السنية والشيعية " وقبل ظهور المرشد الايراني الراحل الخميني وابتداعه لـ(ولاية الفقيه ) واحزابها التي تحكم العراق اليوم وتحاول الاحتيال على شعبه باسم الدين والمذهب وتوسيع مفهوم المقدس بما يحمي مصالحها ويحفظ سلطتها.

 مايسمى بـ (قانون قدسية كربلاء ) أصدره مجلس المحافظة عام 2012 خلال الولاية المشؤومة الثانية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي وبإيعاز من المكتب الخاص للمرشد الايراني الحالي علي خامنئ، لكن توقف تطبيقه بعد ظهور مساعي حثيثة من قبل احزاب كردية وعربية لسحب الثقة من المالكي، وتعطل تطبيقه مرة أخرى عام 2014 بسبب سقوط الموصل ومن ثم السقوط المتتالي للمحافظات والمدن العراقية بيد داعش ومجموعات مسلحة أخرى، حيث كان (حزب الدعوة ) والاحزاب والميليشيات التي تتبع ولاية الفقيه الايرانية باضعف حالتها لذلك أهملت تطبيق هذا القانون حتى لاتخسر الشارع الشيعي.

واليوم وبعد الانتصارات التي حققها العراقيون في تحرير وطنهم من داعش وبدلا من ان تتخلى تلك الاحزاب عن داعشيتها هي ايضا، عادت الى شعاراتها القديمة التي ترفعها مع اي فترة استقرار نسبي او قرب الانتخابات العامة، وهي تطبيق " الشريعة الاسلامية"، حسب مفهوم وتفسير الولي الفقيه وذلك بغلق النوادي الاجتماعية في العاصمة بغداد، ومحاولة تطبيق (قانون قدسية كربلاء ).

و لا أظن ان مسألة إعادة تسويق تلك الاحزاب داخل الشارع الشيعي، وشيطنة خصومها والإستعداد للانتخابات التشريعية المقبلة هو السبب الرئيسي لهذه الحملة، بل أجزم ان هدفها الاول هو الاستحواذ على المحال التجارية والفنادق والاسواق وحتى المنازل السكنية القريبة والمحيطة بمرقدي الامام الحسين واخيه العباس في كربلاء، لاسيما وان جميع المحاولات السابقة فشلت ولم تنجح في الاستحواذ على المناطق المحيطة بالمراقد في مدينتي النجف وكربلاء، رغم استخدامها لأبشع الوسائل والطرق من تزوير امتلاك العقارات الى عمليات الإغتيال وتلفيق الإتهامات للناس بالانتماء لحزب البعث المنحل او الى احد الاجهزة الامنية في عهد صدام، لإجباره على ترك مدينته والفرار الى محافظة أو دولة أخرى.

ولانذيع سرا اذا قلنا ان هذا المخطط هو فكرة إيرانية، وان طهران تحاول جاهدة وباي ثمن الإستحواذ على المربعات التجارية و الاقتصادية والسكنية المحيطة بالمراقد المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، لإسباب مالية واقتصادية ولتكريس نفوذها وسطوتها في البلاد وايضا من اجل الغزو الثقافي والتسويق لـ(ولاية الفقيه ) التي يبدو ان الغالبية العظمى من المجتمع الشيعي العراقي مازال ضدها.

وقد قاوم أهالي النجف وكربلاء هذا المشروع طويلا وخرجوا عامي 2013 و2014، في مظاهرات احرقوا خلالها صور خميني و خامنئي ونددوا بالمالكي وحزبه ورددوا شعارات تمجد الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين ليس محبة به بل نكاية بإيران ومخططاتها، لكن ما يسمى بـ(قانون قدسية كربلاء ) واستغلال بعض المواد من "قانون العقوبات العراقي " المشرع في العهد السابق، ستخول هذه الاحزاب بالسيطرة على املالك المواطنين ومصادرتها بذرائع شتى، وسيجد أهالي هذه المناطق انفسهم امام عقوبات بالسجون الطويلة والمؤبدة وأمام غرامات مالية يعجزون عن دفعها بذرائع سماعهم للاغاني او بيعهم للملابس النسائية او تقديم الشيشة (الناركيلة ) في المقاهي، أوإتهام بعض اصحاب المحال التجارية كذبا ببيع الافلام الإباحية او المشروبات الكحولية أو إقامة اماكن لممارسة الزنى، مايجبرهم على التنازل عن إملاكهم أو بيعها بابخس الأثمان.

والمصيبة الأعظم بالنسبة لهؤلاء المساكين ليست خسارتهم لمنازلهم أو مصادر رزقهم بل مصيبتهم ستكون في الإغتيال المعنوي والتسقيط الإجتماعي، فتلفيق قضايا تتعلق بالاخلاق والشرف في بيئات شديدة المحافظة تجعل الفرد يفضل الموت الف مرة على العيش مطعونا بشرفه أو اخلاقه، لذلك هتفوا لصدام لأن أقسى عقوبة استخدمها ضدهم هي القتل، ومنعهم بعض الاحيان من إداء طقوسهم، لكنه لم يحاربهم في رزقهم ولم يلفق لهم تهما تطعن بشرفهم.

[email protected]