يشك كثير من الأسبان، وخاصة الفاعلين السياسيين والمثقفين، في أن ملكهم السابق، خوان كارلوس، أحس بالسعادة الكاملة، يوم الخامس من يناير (كانون الثاني) وهو يحتفل بعيد ميلاده الثمانين.

لقد تخلى الملك عن الحكم، شبه مكره، عام 2014 لصالح ولي عهده ونجله "فيلبي السادس" استجابة لنصائح مخلصة من مقربين أصغى إليهم باهتمام لثقته بهم، أمثال رئيس الوزراء السابق الاشتراكي فيليبي غونثالث الذي تقاسم مع،خوان كارلوس، وعلى مدى ثلاث ولايات حكومية، أصعب وأخصب مراحل الانتقال الديمقراطي في إسبانيا.

ولم يتحرك الأوفياء للملك، إلا بعد ما شاهدوا صورته وسمعته تتدهوران، يوما بعد يوم، في أعين فئات عريضة من الشعب لم تغفر له سلسلة أخطاء وقع فيها، دون تقدير عواقبها على سمعته الشخصية ومصداقيته، وبالتالي أحقية استمراره متربعا على عرش" آل بوربون".

والحقيقة أن الملك الذي تنازل في الأخير، بقناعته وإرادته، لم يقترف من الأخطاء ما يستحق تخلي قطاع عريض من الشعب عنه ونسيان إنجازاته التاريخية ؛ بالنظر إلى أن وضعه الدستوري لا يسمح له بممارسة تجاوزات، أو التصرف على هواه،في شؤون المملكة الإسبانية ؛ وهو الذي أعلن زهده في السلطة المطلقة التي تركها الجنرال فرانسيسكو فرانكو، أمانة في عنقه، وأوصى العسكريين بالامتثال له والطاعة لمن انتزع له حكم سلالته، بالنار والحديد، من الجمهوريين أعداء الملكية، بتمرد الجنرال الدموي على سلطتهم الشرعية عام 1936.

خالف الملك الوصية ووضع" التركة " رهن إشارة السياسيين، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، ودعاهم للاتفاق على اقتسامها وتوزيعها بين المؤسسات التي ستقوم عليها المملكة الإسبانية لاحقا.

لقد أزاح الملك من الطريق كثيرا من الصعوبات التي واجهتها الكثير من تجارب الانتقال الديمقراطي، وخاصة موقف الجيش، بحيث لم يبق أمام أحزاب المعارضة، بمن فيهم الشيوعيين، التي قاومت الديكتاتور فرانكو، إلا الجلوس إلى طاولات المفاوضات والمشاورات، لوضع أسس البناء الديمقراطي الجديد.

كانت أول الأسس، التوافق على كتابة دستور يؤسس للملكية البرلمانية التي آمن خوان كارلوس أنها الكفيلة بضمان وحدة الشعب الإسباني ذي القوميات والثقافات والنزعات المذهبية والإيديولوجية

قرر الملك عرض الوثيقة الاسمي، بعد أن يصوغها خبراء القانون الدستوري على الشعب، ليقول رأيه فيها،عبر استفتاء عام، شفاف، حر ونزيه؛ فكانت المرة الأولى التي يصادق فيها الأسبان على القانون الملزم لهم، خلاف الدساتير السابقة.

ومنذ تنازله عن العرش صيف 2014، الزم الملك السابق نفسه بالنأي عن التدخل في أمور الدولة، والابتعاد كلية عن الانشغال بالسياسة في الداخل والخارج، رغم وضعه الاعتباري (ملك فخري) تاركا لنجله مواجهة مسؤولياته، حتى إنه قال له مرة "إن إسبانيا لا تقبل إلا ملكا واحدا.".

ولو أجري استطلاع رأي في الظرف الراهن بخصوص موقف الإسبان من ملكهم السابق، فلربما كفروا عن خطئهم في حق الملك خَوَّان كارلوس ولأعربوا له عن عبارات الشكر والامتنان لما بذله من جهود جبارة لعودة الاستقرار والسلم إلى إسبانيا، بعد حرب أهلية طاحنة، ولشكروه على تضحياته لترسيخ الممارسة الديمقراطية والاحتكام إلى المؤسسات الدستورية. والأهم أنه وضع البلاد على سكة التحديث والازدهار الاقتصادي، وساهم قي جعلها عضوا فاعلا في نادي الديمقراطيات الغربية الحديثة.

وبالفعل، اتفق رموز الطبقة السياسية، باستثناء أعداء الملكية، على تثمين دور الملك السابق وطنيا ودوليا وقد بلغ الثمانين حولا. تذكروا على الخصوص موقفه الشهم من محاولة التمرد العسكري الذي قاده العقيد انطونيو تيخيرو، يوم 23 فبراير 1981؛ إذ لولا وقوف الملك إلى جانب الديمقراطية، لانتهت الأمور إلى "الدراما "في تلك الليلة الطويلة حين أحتل المتمردون البرلمان أثناء جلسة الانعقاد واحتفظوا بممثلي الأمة رهائن تحت فوهة البنادق والرشاشات.

أدركت القوى الديمقراطية منذ تلك المحاولة الفاشلة، أن جيوبا في القوات المسلحة غير راضية على النهج الديمقراطي الذي اختاره وريث فرانكو، فتقرر أن يظل "خوان كارلوس" قائدا أعلى للقوات المسلحة التي عاشر ضباطها الصغار، ويحظى بإعجابهم ما جعلهم يعصون تنفيذ أوامر الانقلابيين.

في هذا السياق، صدرت عن الملك فيليبي،التفاتة إنسانية نحو والده؛ فبصفته القائد الأعلى للجيش، وبتنسيق مع القادة العسكريين الكبار، تقرر تشريف والده بحضوره الاحتفال الذي يقام كل سنة يوم السادس من يناير في القصر الملكي بمدريد، احتفاء بذكرى تأسيس القوات المسلحة الإسبانية عام 1782.

وحسبما تناقله الإعلام الإسباني، فإن الملك السابق لم يستطع ممانعة رغبة ابنه وقادة الجيش الذين أدوا له التحية العسكرية بتقدير واحترام، مثلما أشاد الخطباء بالمسار الحافل للملك بعبارات لا تقل إجلالا واحتراما.

هل يكفي كل ذلك، لإعادة البسمة إلى محيا خوان كارلوس، وهو الذي غمرته الأحزان منذ شبابه الذي قضاه بعيدا عن حنان أسرته في المنفى بالبرتغال، ليعيش في ظل المستبد" فرانكو" الذي أراد أن يكون الأمير نسخة مماثلة له؟

والحقيقة أن معاناة ملك إسبانيا السابق كثيرة، حتى على المستوى الصحي، إذ أجريت له العديد من العمليات الجراحية جراء إصاباته في فترات مختلفة ؛ ولا يزال يتحرك مستعينا بعكاز يستند عليه.

ما يؤلم ملك إسبانيا السابق، ليس وضعه الصحي، بل ما يتهدد بلاده من تطورات سياسية يمكن أن تعصف بوحدة الأسبان شعبا وأرضا وتجربة ديموقراطية، أثارت الإعجاب منذ انطلاقها قبل أكثر من أربعة عقود.

 إن الوضع المحتقن في إقليم "كاتالونيا" يسبب أوجاعا للبلاد التي نجحت في كسر شوكة الإرهاب، وهي الآن تواجه تحدي انفصال أغنى الأقاليم عن سلطة التاج الإسباني، في أجواء سياسية اختفت منها القيم المؤسسة التي كانت عماد التجربة الديمقراطية. توارى الفاعلون الذين اعلوا المصلحة الوطنية العليا، فاتفقوا على تجاوز الماضي المرير وعلى الدستور وتصدوا متحدين لعودة العسكر وإبعاد الكنيسة عن التدخل في الشأن السياسي؛ إلى غير ذلك من المنجزات التي جعلت من إسبانيا قوة اقتصادية منافسة، ودولة عصرية مندمجة في أوروبا، تحكمها قوانين متطورة، ذات حضور وإشعاع ثقافي في عدد من البلدان، ما أهلها لاستقطاب أكثر من 80 مليون سائح في العام الماضي

ذاك الرصيد، راكمته إسبانيا في زمن قياسي، وتحولت بسرعة من دولة منكمشة على نفسها إلى لاعب دولي. وما من شك في أن الملك خوان كارلوس، رغم زلاته ونزواته الصغيرة، له نصيب في تحقيقها ؛ إذ على الرغم من سلطته الرمزية (يسود ولا يحكم) فإن الأحزاب التي تداولت على السلطة منحته هامشا كبيرا للتحرك وخاصة في المجال الدبلوماسي. تكفي الإشارة إلى أنه زار اكثر من مائة بلد خلال وجوده في قصر "لاثرثويلا" مسوقا لصورة وطنه، محفزا المستثمرين، باحثا عن الأسواق العالمية لترويج الماركات الإسبانية، مصافحا الجنود المشاركين في وحدات حفظ السلام بمناطق النزاعات والتوتر.

صحيح أنه لا خوف على إسبانيا، لكن الثابت أن تجربة الانتقال الديمقراطي فقدت بعض وهجها، ما شكل سعادة ناقصة للملك،خوان كارلوس، وقد تجاوز عتبة الثمانين. إنه حقا ملك ديموقراطي حزين.