مفهوم الحضارة عند المفكر العربي "مالك ابن نبي"، ينبني على اعتقاده الراسخ بأن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها. وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة فهم واستيعاب حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها، يحاول "ابن نبي" إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه. وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه.

وبما أن الحضارة إنجاز لا يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد،فإن "ابن نبي" أولى كل اهتمامه لتحريك الإنسان " العربي والمسلم" الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع الفعالية والعطاء والإنتاج، لأن المقـياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها، وسيكون من الجهل والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من غير منتجاتها. وعملية استيراد أشياء الغرب ومنتجاته، والاكتفاء بذلك سبيلا للتقدم، أشبه بالذي يحاول أن يعالج أعراض المرض ونتائجه البارزة الظاهرة للعيان، بدل أن يعالج أسبابه العميقة، وأصوله الباطنية، مما يظهر المرض في الظاهر كأنه قد اختفى، لكنه في الحقيقة لا يزال ينخر صحة المريض، ويستنزف قواه في الباطن. 

استخلص "ابن نبي" من قراءاته المتعددة للتاريخ البشري وفلسفته، ولتاريخ الحضارة الإسلامية على وجه الخصوص، أن مسيرة الأمم والجماعات تخضع لنـظام دوري، قلما تنجو أي أمة من الأمم من جريانه. وهذا في نظره هو الذي يجعل الأمة في فترة من فترات تاريخها الحضاري تسجل مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، تبقى خالدة في سجل تاريخها وتاريخ البشرية من حولها. كما تسجل عليها في فترات أخرى انتكاسات وهزائم حضارية وعمرانية وعسكرية، وغير ذلك من الحالات المرضية التي تهوي بالأمة إلى مهاوي التخلف والانحطاط في آخر طور من أطوار دورتها الحضارية. وهكذا تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يبعث ليكون حلقته في سلسلة الحضارات، حينما تدق ساعة البعث، معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى.

ويرى "ابن نبي" أن هذا القانون طبيعي جدا، لأنه يخضع لنفس النواميس التي تخضع لها باقي مخلوقات الله في هذا الكون، فاليوم يبدأ بالشروق والزوال، ثم يتبعهما الغروب الذي يسدل الظلام على الكون، والشهر كذلك يبدأ ببزوغ الهلال، ثم يستكمل تدريجيا دورته،لينتهي بعد ذلك إلى الزوال ليبدأ شهر آخر، واحدا بعد الآخر في إطار سلسلة دورية مستمرة. انطلاقا من هذا يقول ابن نبي: إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر.

ولا يعني هذا أن التاريخ يفرق هداياه، أو يوزع أمجاده لأي كان، كما تنشر الشمس أشعتها حينما تؤذن بالشروق، لكن التاريخ كتلة من السنن والنواميس الإلـهية التي تتحكم في توجيه الأفراد والمجتمعات على السواء. وهذه السنن والقوانين لا بد من استيعابها، والسير على هداها لمن أراد النهوض والريادة الحضارية. أما الذين لا يحترمونها ولا يستوعبون عبرها ومراميها، فإن حركتهم تكون حركة مضطربة لا يحكمها ضابط ولا هدف، مما يؤدي إلى مصادمة السنن الهادية إلى البناء والدخول في فترة الخمول. ومن قوانين التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر.

كما يعتقد "ابن نبي" ان المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية لا يمكن على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه، ولا يمكن لمجتمع في عهد البناءوالتشييد أن يعتمد كليا على الأفكار المستوردة أو المفروضة عليه من الخارج. علينا أن نكتسب خبرتنا، أي أن نحدد موضوعات تأملنا، وعلينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي.

ولكي يخرج العرب والمسلمون مما هم عليه الآن من سبات حضاري وخذلان، لا بد أن يستوعبوا سنن الله الثابتة في الكون التي يخضع لها الأفراد والجماعات، لأنهم بهذا الاستيعاب فقط يمكن أن تكون حركتهم في التاريخ حركة ثابتة وهادفة بدل أن تبقى كما هي عليه الآن حركة عشوائية تحكمها الصدف، وتوجهها الأهواء الفردية والنزوات الشخصية. فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا، ولعل أعظم زيفنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه، حيث يسير خبط عشواء.

الحضارة أسلوب معيشي يعتاد عليه الفرد من تفاصيل صغيرة إلى تفاصيل أكبر يعيشها في مجتمعه، ولا يقصد من هذا استخدامه أحدث وسائل المعيشة بل تعامله هو كإنسان مع الأشياء المادية والمعنوية والسلوكية التي تدور حوله وشعوره الإنساني تجاهها. كما ان من سمات التحضر والرقي: احترام القوانين وخصوصيات بعضنا البعض، والمحافظة على الأملاك العامة، كالحدائق العامة ومراكز الترفيه الاجتماعي، والمحافظة على نظافة دورات المياه العمومية في أماكن العبادة والمجمعات التجارية، ورمي القمامة في الحاويات المخصصة لها بدلا من تركها على قارعة الطريق، واحترام قوانين وقواعد المرور، والوقوف في الطابور في محطات القطارات وحافلات النقل العام، وإشاعة هواية القراءة في المكتبات العامة، والبيوت والمقاهي، وقاعات الانتظار في المطارات والمراكز الصحية والمستشفيات. كل هذا، للأسف، نفتقده في اغلب دولنا العربية إن لم يكن جميعها.

المصدر: كتاب شروط الحضارة. "مالك ابن نبي".