بدأت المعاناة من شحة المياه في الجنوب العراق، تظهر، وبدأت الاصوات تتعالى رويدا وريدا، وهناك اصوات بدأت في المطالبة بالهجرة، باعتبار ن الحياة لم تعد ممكنة مع قلة الماء في نهري الفرات ودجلة وبالاخص الفرات. 

وبالرغم من ان الفرج المؤقت يمكن ان يأتي مع بداية شهر نيسان، اي بعد ذوبان الثلوج في الجبال، مما يساعد على زيادة الماء في مجري النهرين. ويساهم في التخفيف من الضائقة المائية القائمة. الا ان الفرج هو حل مؤقت لن يستمر الا شهرين كحد اعلى.

لو القينا الضوء على اسباب الوضع القائم، نرى ان استهتار تركيا واتخاذها قرارات انفرادية، وهي لا يحق لها ذلك، باعتبار ان دول المنبع والمصب مشاركين في الماء. الا انها استغلت الظروف التي مرت بالعراق لتنفيذ ما تريده وما يحقق مصالحها، وهي منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأت مشروعا ضخما لبناء حوالي 21 سدا قد تصل قدرتها الاستيعابية حوالي 100 مليار متر مكعب من المياه. لا مانع بالطبع من ان تتمكن تركيا من الاستفادة المعقولة من المياه التي تنبع في اراضيها، ولكن هذا لا يعني ترك بلدان المصب تتعرض للعطش والتصهر وبالتالي للمجاعة. كان من المفروض ان يتم الاتفاق على مقاسمة المياه بالنسبة المئوية بين كل من تركيا وسوريا والعراق وكل منهما يحصل على ما يستحقه. الا ان الضعف الذي لحق بالعراق جراء سياسات حكوماته الرعناء في خلق العداء مع الجوار، وخصوصا مع ايران ومن ثم الكويت، واخيران كل الإقليم الشرق اوسطي. قد ترك العراق بلا اصدقاء. ودفع الحكومات المتتالية والتي خلفت سقوط صدام، للاهتمام فقط بالازمات الداخلية. وكان موقف سوريا يراعي مصالحها الخاصة دون اي اهتمام بما يلحق العراق. 

ان عدم قبول تركيا للحوار في الازمة وهي تعتبر بحق ازمة تتعلق بوجود الشعب العراقي، يعني اعلانها الحرب على العراق، اعلان الحرب المائية التي حذر الكثير من الخبراء انها ستكون حرب القرن الواحد والعشرين. هناك اوساط تركيا او مؤيدة لها، تطالب المشاركة في نفط العراق وسوريا، للقبول بالمشاركة في الماء، ناسين ان الماء عنصر طبيعي يسير في اراضي الدولتين واقيمت على مجاري انهاره المدن والقرى ونشاط اقتصادي كبير. ومسار الماء هو قبل نشوء الدول القائمة حاليا، ويمتدد لالاف السنين. كما ان هناك اتفاقيات دولية وثنائية تحدد طريقة الاستفادة من المياه في الانهر المشتركة كما هو حال دجلة والفرات وبعض روافد النهرين. وبالاظافة الى تركيا فان الجارة ايران بدأت باقامة المشاريع للاستفادة من بعض الانهر التي تصب في العراق او في شط العرب كنهر كارون. وهذا بدأء يؤثر على مجري النهر وعلى نوعية المياه التي فيه. بمعنى ان المشكلة مع الدولتين الجارتين وليست مع تركيا فقط، بالرغم من انها مع تركيا اكثر تأثيرا بمدى بعيد. طبعا ان اقامة هذه السدود لا يقلل كمية المياه فقط، بل يؤثر على نوعيتها وعلى ملوحتها، مما يحول ما يصل الى العراق الى مياه غير صالحة لا للشرب ولا للسقي.

ان السيطرة على تدفق المياه، يعني السيطرة على سياسية البلد وتوجيهها حسب المسار المطلوب، تحت طائلة التهديد، بقطع او تقليل الماء وبحجج مختلفة، يمكن اختلاقها. اذا لا بد من التفكير ولو ان الامور بدأت تخرج من نطاق التاثير والمطالبة بالتغيير، الا انه وفي ضوء ما يمكن ان يحدث، فعلى العراقيين التفكير بالمثل القائل قطع الاعناق ولا قطع الارزاق. واذا كانت تركيا قد استغلت ظروف العراق وما مر به منذ دخوله الحرب المجنونة ضد الجارة ايران وما تلاها. فان على العراق التفكير في التاثير السياسي والضغط على الحكومة التركية لكي تدرك وتقبل التفاوض والوصول الى نتائج مرضية لكل الاطراف. دون اي محاولة للوي الاذرع وفرض الارادات والمطالبة بالمشاركة بالثروات الوطنية. ان على تركيا ان تدرك انها تتعامل مع شعب وليس مع حكومات، ومع استمرارية حالة، بمعنى اننا سنبقي جاران مهما تغييرت الحكومات وسياسياتها، وهي ان لم تكن قد فكرت في ذلك بل في اولية مصالحها وليذهب العراقيين الى الجحيم، فان العراق مطالب بتذكيرها بذلك، والا فان من حقه ان يتخذ من السياسيات مع ما يراعي مصالح شعبه.

 بات على الحكومة العراقية، بالعمل الواقعي المبني عل توفير وامتلاك عوامل قوة، يمكن ان تؤثر في القرار التركي. كان تفكر بالتواصل مع القوى القائمة في تركيا، وخصوصا تلك المعادية للسياسات الدولة التركية ، وتحاول ان تستميلها والتاثير عليها من خلال الدعم والاتفاق، لتحقيق مصالح العراق على المدى الطويل. لا تركيا ولا حتى ايران تعطي للعامل الاسلامي ذات الاهمية التي يتم التعامل بها في العراق وبعض الدولة الناطقة بالعربية. فلايران وتركيا، مصالح وطنية تعلى على اي شئ. ومن هنا فان الاتكال على العامل الاسلامي باعتبار هذه الدولة اسلامية وامكانية التاثير عليها، هو تمني غير واقعي، لا يتكل عليه اي مبتدئ في السياسة. 

لقد بنيت حضارة وادي الرافدين، بسبب المياه التي كانت متوفرة في النهرين الخالدين دجلة وفرات، وان انقطاع المياه او شحتها، اشارة لزوال الانسان وليس الحضارة التي تم ازالتها فعلا. فهل تدرك الحكومة العراقية مسؤوليتها حقا تجاه شعبها، ام تضحي به من اجل شعارت الاخوة الاسلامية؟ التي لم تعطي اي نتيجة لحد الان. ان العراق لا يمكنه حتى الاستفادة من مياه البحري لتوفير ماء للشرب والسقي، فمن اين له بالماء، ان لم يكن من خلال نهريه وروافدهما.