حينما قدمت لأمريكا عام 2014, كان اهتمامي السياسي في العلاقات السعودية الأمريكية يتوجه مباشرة نحو واشنطن مقر العمل السياسي وربما نيويورك كدرجة ثانية. أي أنني كنت كالسواد الأعظم من المهتمين الذين ينظرون لعنوان الكتاب وربما يغفلون عن تفاصيل الأحداث داخل الصفحات. 

في روايتي " 23 يوم " المنشورة عام 2012 عن دار الفكر العربي، كان تركي، السعودي البطل مستقرا في واشنطن بالقرب من البيت الأبيض مع صديقيه المفضلين مايكل وأليكس حيث يقضون أوقاتا ممتعة التي تأزمت بعدها بسبب الحرب المشتعلة في غزة عام 2009.

هذه النظرة عموما في رؤية العاصمة الأمريكية مقرا للقرارالسياسي تلاشى بعضها لدي مع استمرار وجودي في أمريكا حتى اليوم. الحقيقة غير المفاجئة هي أن القرار الأمريكي في واشنطن ليس إلا العنوان فحسب، وأن التفاصيل بل ومعظم التفاصيل تكمن خارج واشنطن.

في عام 2015 احتفلت جامعة إنديانا بافتتاح مبنى كلية الدراسات الدولية المشيد في مدينة بلومنقتون إنديانا.

كانت لوحة الافتتاح تشير لاسم رجل غير بارز سياسيا آنذاك. حضر الرجل وافتتح المبنى لارتباط المبنى بموضوعالعلاقات الدولية وبحضور مجموعة من السفراء وأعضاء الكونغرس المتقاعدين حينها والعاملين حاليا بالجامعة في مجال البحوث وتقديم الاستشارات بما يتناسب مع توجهاتهم السياسية والعلاقات الدولية.

كان هذا الرجل هو مايك بينس نائب الرئيس الأمريكي الحالي، والذي كان وقتها حاكم ولاية إنديانا. وحينها بدأت أعي أهمية دورنا في النهوض بعلاقاتنا خارج أسوار واشنطن، حيث 70% من أسماء المناصب القيادية التي تؤثر بشكل مباشر على علاقاتنا بالولايات المتحدة هم أشخاص قدموا من خارج واشنطن ومن خارج نيويورك، أي أنهم ربما وعلى الغالب لم يلتقوا بشخصيات سعودية مؤثرة قبل مجيئهم للعاصمة.

وقبل أن أفرغ إلى الحديث عن أهمية دورنا في تمهيد العلاقات السعودية الأمريكية من خلال الولايات والمؤسسات السياسية خارج العاصمة، أود القول هنا إن المؤثرين الأمريكيين من الساسة ورجال الأعمال المنتشرين في معظم الولايات هم أناس كامنوا القيمة الثقافية والاجتماعية. ومعنى ذلك أن ليس لديهم ما سيمنع من الاختلاط بصداقات سعودية مؤثرة، حيث العلاقات الاجتماعية العادية مع الجنسيات غير الأمريكية لا تنال من مصداقية السياسي الأمريكي مالم يكن ذلك متداخلا مع العمل السياسي نفسه.

ولكن: هل يبدو علينا أننا نعاني في علاقاتنا السعودية الأمريكية إذا ما احتويناها فقط بعد وصول هؤلاء الأشخاص إلى واشنطن؟ 

أقول إن ذلك لا يجعل الأمر بالغ الصعوبة، فعلاقاتنا قوية، وقوتها تنبع من المصالح المشتركة بيننا. ولكن الفارق المهم هو أننا سوف نفتقد إلى الصداقات التي تجعل من العمل السياسي بين البلدين ليس قائما فقط على المصالح المشتركة، وإنما قائم أيضا على الثقة التي تغذيها هذه الصداقات الاجتماعية والثقافية.

لقد وجدت أن تصور المؤثرين الأمريكيين في الولايات المختلفة عن المملكة بالغ الأهمية، فمعظم هؤلاء المؤثرين مثل حكام الولايات، ومدراء الجامعات، ونواب المقاطعات يأتون بشكل متغير في شغل المقاعد النيابية والتشريعية، وهو ما يجعل علاقاتنا معهم قد تأتي في الوقت بدل الضائع، حيث ربما لم يكن لدى بعضهم مسبقا ما يهيئ لهم التصور الصحيح عن المملكة.

في لقاء إذاعي أجري عام 1997 مع الفيلسوف والمؤلف السياسي الفرنسي جاك ديريدا خلال ندوة بمركز الفكر الفرنسي المعاصر ونشر نصها بالإنجليزية عام 2003, تحدث جاك عن كتابه الشهير " سياسة الصداقة ", وفيه ينقل جاك أن الصداقات الاجتماعية داخل الميدان السياسي هي قوة ناعمة مفرطة في النتائج الإيجابية. انتهى.

نعم إنها قوة ناعمة وفرصة تحاول إيران على سبيل المثال الاستفادة منها ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما أيضا في دول أخرى عدة، حيث الصداقات على المستوى الثقافي والاجتماعي تمتد مع دور النشر المؤثرة والصحف ومراكز البحوث. أقول الصداقات على المستوى الاجتماعي، لأن ذلك لا يعتبر مخالفا للمهنية داخل المجتمعات الغربية. فالصداقات بأحد تعريفات الفرنسي جاك هي باختصار الإبقاء على حد أدنى من التعارف الذي يتيح للجانبين التواصل على المستوى الإنساني والثقافي والاجتماعي.

بهذا الدور الثقافي تبرز أهمية الانتقال بعلاقاتنا المتينة إلى مفهوم جديد هو سياسة الصداقة، وهو ما يتيح بناء تواصل إيجابي استباقي لمن يأتون مستقبلا إلى ممارسة القرار السياسي في واشنطن، أو مع من يملكون الوسائل المؤثرة الأخرى.

كاتب سياسي سعودي