بالأمس القريب رحل عن دنيانا صديق عزيز، هو الصحافي والناشر مصطفى ناصر. لم تتذكره صحف لبنان حتى الآن، إلا بخبر الوفاة ويا للأسف. لكن رحيله ترك في قلوب أهله وأصدقائه لوعة ما أظنها ستخبو مع مرور السنين. كان مصطفى ناصر من الناس الطيبين خلقاً ومسلكاً، ومن المميزين في عالم الصحافة.أقول المميزين، لأنه جمع في شخصه صفة نادرة قلما نجدها بين العاملين في هذا الحقل، هي صفة "التوازن". لم يكن منحازاً لأحد، أو متحزبا لأحد، أوكارها لأحد، لذلك وثق به الناس كل الناس، السياسيون منهم بنوع خاص، وائتمنوه على مجالسهم، وأودعوه الكثير من الأسرار، وعيّنه الراحل رفيق الحريري مستشاراً، فأصبح وسيطاً بينه وبين الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، وأدى دوره بجدارة.

كنت وما زلت ضد جماعة 8 آذار و14 آذار، وأعتبرهم من أسوأ السياسيين في العالم، ومسؤولين عن الحال المزرية التي وصل إليها لبنان، وكان مصطفى يعرف ذلك عني، ويعرف موقفي السلبي الثابت من الزعماء اللبنانيين كافة، مع ذلك كان حواري معه دائماً ودوداً، ولم يتعد يوماً حدود اللياقة. أعترف بأني في كل السنوات التي عرفت فيها مصطفى ناصر، لم أستطع أن أتبين موقفه "الباطني" من السياسيين اللبنانيين، لكني أذكر أنه كان معجباً بالرئيس رفيق الحريري، وبالسيد حسن نصر الله، ولم تمنعه صفة "التوازن وعدم الإنحياز" هذه، من أن يكون وطنيا محبا لبلاده.

ذات يوم من أيام صيف السنة الماضية، اصطحبني مصطفى إلىمكاتب صحيفة "الإتحاد" في وسط بيروت، وكانت في طور التحضير، ومكاتبها لا تزال في مرحلة التأثيث. لم أخف عليه هواجسي من إصدار صحيفة ورقية في مدينة تعيش صحافتها هذه الأيام أسوأ مرحلة في تاريخها، خصوصا بعد توقف جريدة مثل "السفير"، لكن مصطفى كان واثقاً من خطوته، في حينكنت أنا خائفاً عليه، فإذا بالأيام تؤكد خوفي وظنوني، إذ توقفت "الإتحاد" بعد أسابيع من صدورها، وفي نهاية لا تزال محفوفة بعلامات الاستفهام. 

عندما تركنا المكاتب، جلست وإياه في أحد المقاهي القريبة، وسألته عن الدافع وراء النشر والهدف منه، وعن السياسة التي سوف تنتهجها الصحيفة. أكد لي أنها ستكون "مستقلة"، وأنها سترمي إلى المصالحة بين اللبنانيين، وإيجاد حوار جدي بين السعودية وإيران، يمهّد إلى سلم ثابت في لبنان. كان مصطفى، كصحافي ووسيط ومستشار، يملك الكثير من الأسرار، حتى مشروع "الإتحاد" نفسه صار سراً! من الشائعات، أن توقف الصحيفة، سببه توقف التمويل المطلوب، ومنها أيضاً أن المرض ألّم بناصر فلم يعد بمقدوره أن يتابع المسيرة، فانزوى في بيته. وحين زرت بيروت قبل أسبوع من رحيله اتصلت به فلم يرد، وكان ذلك على غير عادة منه. ذهبت إلى عم كريمته بالتصاهر، رجل الأعمال المعروف، الحاج ناظم أحمد، أستطلعه السبب، فأخبرني أن مصطفى معتكف، وأنه أسير المرض والخوف، لا يستقبل أحداً، ولا يرد على مكالمات أحد. حزنت عليه، لكن الشيء الذي فاجأني وفاجأ أهله ومحبيه، كان رحيله عن الدنيا بهذه السرعة، كأنه كان يودعنا ونحن غافلون عن أنه مودّع، فيما كان الموتالغادر، يلملم خيوط حياته الأرضية، بشيء من الخلسة والخيانة.

كنت أحب مصطفى، وكنت ألقاه في لندن وبيروت. كان لقاؤنا الأخير في صيف العام الماضي، في عرس كرمى خياط، كريمة صديقنا الناشر والإعلامي تحسين خياط، بنادي مونتي كارلو في جنوب فرنسا. لم تكن "الإتحاد" قد صدرت بعد، وكان مصطفى كعادته مبتسماً، كثير الأمل كثير الطموح. لم أتورع بما لي عليه من دالّة، عن سؤالي له عن مصادر التمويل، فأخبرنيبأن المشروع عائلي، وبأن لديه وعوداً من مستثمرين، وبأن الأمور تسير حسب خطة مرسومة. لكن توقف الصحيفة ورحيل ناشرها جعلاني أتساءل: هل توقفت "الإتحاد"، لأن المستثمرين خذلوا ناشرها، فما عاد بمقدوره احتمال ذيول ما أقدم عليه، وتبعات وعود قطعها على العاملين والقراء؟ هل أن طبيبه الذي كان يعرف ما في جسمه من السرطان، أخطأ في التشخيص، وأخبره أن بإمكانه العمل، وأنه سيعيش سنوات طويلة، فشعر بالراحة، وأقدم على النشر غير آبه ومقدّر ما سوف يواجه من متاعب؟ الحق أنني لا أعرف. مهما يكن، تبقى قضية "الإتحاد" سراً من أسرار كثيرة، أخذها الراحل معه إلى القبر.

كان مصطفى ناصر ودوداً بشوشاُ، دمث الخلق حلو الحديث. كان يعشق لندن، ويجد فيها راحته المنشودة. لطالما مشينا معاً في الحديقة القريبة من "نايتس بريدج" حيث كان يحب أن ينزل في فنادق ذلك الحي الأنيق، ولطالما سرنا بمحاذاة بحيرة تلك الحديقة، وكنت في كل مرة ألمح في عينيه فرحاً طفولياً، كأنه كان يخلع عن كاهله ما حمّله السفر من ضجيج بيروت وهمومها، وأثقال الحياة السياسية اللبنانية. كان محباً للحياة فرحاً، وكان، كلما التقينا، يبادرني بالسؤال عن "آخر نكتة"، فأروي له ما لدي من جديد، فيضحك وأضحك.

أكتب عن مصطفى ناصر وأعترف بأني في كل السنوات التي عرفته فيها، لم أكن أعرف سر مرضه الحقيقي، وما كان هو على أي حال، من الذين يذيعون أسراراً، لكنه ظل برغم المرض، يعمل ويسافر ويكتب. كان بمقدور أي صحافي مثله أن يكتب سيرة حياته، ويذيع في الناس الكثير مما سمع وشاهد وعاين، لكنه آثر الصمت، إلى حين أخذه الموت. حياته حفلت بمحطات مثيرة. دوره كوسيط بين رفيق الحريري وأمين عام حزب الله، ووقوفه متحدثاُ على منبر المحكمة الدولية الخاصة بمصرع الحريري، وعلاقته الوثيقة مع الصحافي والكاتب المصري الراحل محمد حسنين هيكل أغنت ثقافته السياسية والإنسانية والاجتماعية، وزودته مادة إعلامية كثيفة، غير أنه آثر الكتمان، ولم يعط غير نتف أذاعها في مقابلات صحافية وتلفزيونية معدودة، هنا وهناك.

عمل مصطفى ناصر في الصحافة سنوات طويلة. كتب في"السفير"، وكان مراسلاً لصحيفة "الرياض" السعودية في لبنان. أسس "وكالة الأنباء الدولية"، ونسّق جميع لقاءات رفيق الحريري مع حسن نصر الله، وكان حاضراً فيها. علاقته بالحريري الأب بدأت مند تسلم الرجل رئاسة الحكومة اللبنانية في العام 1992،إلى حين مصرعه في العام 2005، ثم استمرت لفترة غير قصيرة مع نجله سعد. كان مصطفى ناصر رجل علاقات عامة. أقام أواصر صداقة مع سياسيين من مختلف الإتجاهات، في لبنان والعالم العربي، وكان ملماً بالشؤون اللبنانية، وظل محايداً، وعلى مسافة واحدة من جميع الأطراف، حتى في أدق المراحل، وما هذا بأمر هيّن في بلد يقوم على التضاد، ويعصف به التناقض من كل جانب، وتتنازع سياسييه وبنيه، أهواء ونزوات متباينة أشد التباين. أحب مصطفى ناصر الناس وأحبوه، ولا شكفي أن الذين صادقوه وعرفوه من كثب، سيترحمون عليه، ترحم أهله وأحفاده وزوجته وبناته الأربع. الموت حق، هكذا تقول الأديان، لكن ما يشفع، أن الراحل ترك في نفوسنا شيئاً من ذاته الجميلة، شيئاً يجعلنا نذكره دائماً بالخير ونقول: هوذا قانون الطبيعة، وتلك هي سنّة الحياة.